مي سمير تكتب: كاتب تركى مسجون يتحدى أردوغان برواية مسربة: «لن أرى العالم مرة أخرى أبدا»

مقالات الرأي



يكشف أحد الفصول كيف توقع القبض عليه

«لن أرى العالم مرة أخرى أبدا».. رواية ملهمة للكاتب التركى المعتقل أحمد ألتان، والذى من خلالها يوفر نظرة ثاقبة وحاسمة للرقابة السياسية وسط صعود الاستبداد فى تركيا.

يكتب أحمد ألتان: «لقد أصبح المصير الذى كتبته فى إحدى روايتى هو مصيرى، أنا الآن رهن الاعتقال مثل البطل الذى خلقته منذ سنوات، أنتظر القرار الذى سيحدد مستقبلى كما كان ينتظره، أنا لا أعرف مصيرى الذى ربما تم تحديده بالفعل، تماماً كما لم يكن بطل روايتى على دراية بمصيره، أعانى من العذاب المثير للشفقة».

الروائى أحمد ألتان، المحبوس فى زنزانة طولها أربعة أمتار، هو واحد من العديد من الكتاب الذين اضطهدهم النظام القمعى لرجب طيب أردوغان، وفى هذه المذكرات غير العادية المكتوبة من زنزانته، يتأمل ألتان فى عقوبته ويكشف كيف أدرك مع اللحظات الأولى من إلقاء القبض عليه أنه فقد حريته.

كتب: «يقرر الآخرون ما عليه فعله، وأين أقف؟، وأين أنام؟، ومتى استيقظ؟، وما هو اسمى»، ولكن ألتان رغم سجنه  نجح فى كتابة روايته التى تحولت إلى رمز للحرية، وتمت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية وصدرت فى الأول من أكتوبر 2019، واختارها موقع أمازون ضمن أفضل 20 رواية لعام 2019.

1- الصحفى المناضل

أحمد ألتان البالغ من العمر 70 عاماً، هو صحفى ومؤلف تركى ولد عام 1950 فى أنقرة، والده هو الصحفى والكاتب البارز جيتين ألتان، ويعمل شقيقه محمد ألتان صحفيًا وكاتبًا وأستاذًا جامعيًا فى السياسة والاقتصاد.

وتخرج ألتان فى كلية الثقافة والآداب، جامعة إسطنبول عام 1981، وفى عام 1982 كتب أولى رواياته (الخريف)، واحترف الصحافة لأكثر من عشرين عاما، وخاض العمل الصحفى بمختلف مراحله، وبدأ مشواره بوظيفة مراسل إلى أن شغل منصب رئيس تحرير فى عدد من الصحف المختلفة، بالإضافة إلى نشر المقالات فى العديد من الصحف التركية، بما فى ذلك حرييت وميليت وراديكال، وأنتج ألتان برامجًا إخبارية للتليفزيون، كما نشر العديد من الكتب والروايات الأدبية الشهيرة منها: الأثر، تاريخ الوحدة، حكايات خطيرة، جرح السيف، وتمرد يوم الحب، وآخر رواياته كانت الموت أسهل ما فى الحب، وحاز على العديد من الجوائز الأدبية كان آخرها جائزة جمعية إسطنبول لحقوق الإنسان عام 2017، وجائزة الرابطة الألمانية للناشرين غيشويستر شول عام 2019 .

تم فصله من ملييت بعد أن كتب عموداً فى 17 أبريل 1995 بعنوان «أتاكورت»، والذى قدم تاريخًا بديلاً لتركيا كدولة كردية يتعرض فيها الأتراك للاضطهاد ويجبرون على الاندماج.

وفى عام 2007 أصبح رئيس التحرير المؤسس وكاتب العمود الرئيسى لـ«طرف»، وهى صحيفة تركية يومية، وظل فى المنصب حتى استقالته فى ديسمبر 2012.

فى سبتمبر 2008 عندما نشر ألتان مقالاً بعنوان «يا أخى» مخصص لضحايا الإبادة الجماعية للأرمن، تم اتهامه بموجب المادة 301 من قانون العقوبات التركى بـ«تشويه السمعة التركية»، وبدأت الدعوى القضائية من قبل «حزب الاتحاد العظيم» اليمينى المتطرف، وعادة ما كان ألتان إلى جانب بعض رفاقه فى صحيفة طرف يحملون سلاحًا ناريًا لحماية أنفسهم.

بصفته رئيس تحرير صحيفة طرف، تم اتهامه من قبل نظام أردوغان بالعمل على إسكات مزاعم قيام حركة جولن بالغش فى امتحانات موظفى الخدمة العامة الإجبارية فى تركيا لتعزيز سلطتهم فى الدولة، وفى 14 ديسمبر 2012 استقال من منصبه كرئيس تحرير لطرف.

2- عدو أردوغان

خلال ما سمى بحملة التطهير للإعلام التركى بعد الانقلاب الفاشل فى يوليو 2016 تم اعتقال ألتان، وهو متهم بإرسال «رسائل مموهة» لتشجيع مخططى محاولة الانقلاب عام 2016.

ومع بدء المحاكمة تحدث العديد من المؤلفين لدعم ألتان، وقال الكاتب البريطانى نيل جايمان: «آمل أن يقرأ كل من يستطيع القراءة، مهما كانت سياسته رد أحمد ألتان على سجنه، تأمل الأنظمة القمعية أنه إذا حبسوا الكتاب فإنهم يحبسون الأفكار أيضاً، هذا سيفشل دائما».

وقالت الكاتبة البريطانية جوان هاريس: «الكتاب موجودون للتساؤل، والتحدى، وأحيانا للسخرية من الوضع الراهن، إن قيام حكومة ما بسجن كاتب لقيامه بذلك يعنى مهاجمة ليس فقط حرية التعبير، ولكن حرية التخيل، إنها لفتة متخلفة وقمعية وعقيمة، وفى النهاية لا يمكن أن تؤدى إلا إلى اضطرابات اجتماعية أكبر وأكثر ضرراً».

3- المنع من الاتصالات المكتوبة

«لن أرى العالم مرة أخرى أبدا» هو كتاب يضم المقالات التى كتبها المؤلف التركى فى سبتمبر 2017، أثناء منعه من الاتصالات المكتوبة داخل زنزانته، وبدأ ألتان فى كتابة مقالاته بشكل سرى وقام بتهريبها من زنزانته عن طريق محاميه.

كتب ألتان مقالاً بعنوان «مفارقة الكاتب» يقول فيه: «أنا أكتب هذه الكلمات من زنزانة السجن، لكن انتظر، قبل أن تبدأ فى عزف طبول الرحمة لى، استمع إلى ما سأقوله لك. قد يكون لديهم القدرة على سجنى ولكن لا أحد لديه القدرة على إبقائى فى السجن. أنا الكاتب». تم نشر المقال فى 18 سبتمبر 2017 عشية محاكمة ألتان.

يكشف ألتان عن تلك اللحظات التى تفصل بين الحرية والسجن، ويصفها بأنها أقرب لهذا الفرق بين الحياة والموت، ويكتب: «ركبنا سيارة الشرطة التى كانت تنتظر عند البوابة، جلست وحقيبتى فى حضنى، ولم أدرك ما يحدث إلا عندما أغلقت أبواب الزنزانة، يقال إن الموتى لا يعرفون أنهم ماتوا، وفقا للأساطير الإسلامية بمجرد وضع الجثة فى القبر وتغطيتها بالتراب ومغادرة المشيعين، يحاول الميت أيضا النهوض والعودة إلى المنزل فقط ليدرك عندما يضرب رأسه غطاء التابوت أنه مات، وعندما تم إغلاق باب الزنزانة شعرت بأن رأسى ارتطم بغطاء التابوت».

ويتضمن الكتاب مجموعة من الفصول القصيرة التى تقتصر على صفحتين، يتناول كل فصل قصة أو حكاية تعرض لها الكاتب داخل جدران السجن، فى مقدمته يؤكد أنه كان يتوقع اعتقاله بسبب تاريخه الطويل فى معارضة نظام أردوغان.

وتكشف إحدى مقالاته كيف توقع اعتقاله مثل غيره من أصحاب الرأى، حيث تحولت تركيا إلى دولة ترفض الاستماع إلى أى صوت يقدم نغمة مختلفة عن الموسيقى التى تعزفها أوركسترا الإشادة بأردوغان.

فى الخامسة صباحا استيقظ ألتان على صوت دقات الباب، مثل كل المعارضين فى هذا البلد، يذهب ألتان إلى الفراش وهو يتوقع رنين جرس الباب عند الفجر. وأضاف: «علمت أنهم سيأتون من أجلى ذات يوم، حتى أننى قمت بإعداد مجموعة من الملابس فى حقيبة ليلية حتى أكون جاهزاً لمداهمة الشرطة وما سيتبع ذلك... بنطلون فضفاض من الكتان الأسود مربوط بشريط داخل الخصر، وبالتالى لن تكون هناك حاجة إلى حزام. ووضع فى الحقيبة جوارب سوداء وأحذية رياضية ناعمة مريحة وقميص قطنى فاتح وقميص آخر داكن اللون.

ارتدى ألتان ملابسه وفتح الباب لستة من رجال الشرطة كانوا يرتدون سترات فرق مكافحة الإرهاب، وأبلغوه أن لديهم أوامر تفتيش واعتقال له ولشقيقه محمد الذى يسكن فى نفس البناية، مما دفع الكاتب التركى إلى الاتصال بشقيقه وقال له ببساطة: «لدينا ضيوف، افتح الباب».

ورغم روح التحدى والأمل التى نسجها ببراعة بين سطور كتابه إلا أن المقالات لا تخلو أيضا من لحظات الضعف.. كتب ألتان عن معاناته العاطفية بسبب ابتعاده عن شريكته فى الحياة: «لم يعد بإمكانى تقبيل المرأة التى أحبها، معانقة أولادى، ملاقاة أصدقائى، التنزه فى المدينة، لم يعد بإمكانى أكل البيض بالنقانق أو شرب كأس نبيذ أو دخول مطعم وطلب طبق سمك، لم يعد بإمكانى تأمل شروق الشمس».

وفى مقال آخر يكشف تأثير السجن عليه ككاتب ومؤلف يعتمد على الخيال والحرية: «بعض الكلمات مثل بعض الأفعال، تفرضها الأحداث، المخاطر، والواقع الذى يحيط بكم، وما أن ترفضوا تأدية الدور المحدد لكم، يؤخذ الواقع على حين غرة فيصطدم بحاجز روحكم المتمردة ويتكسر».

كما يرسم الكاتب الحالم الذى يحرص على بث روح التفاؤل والمثابرة فى مقالاته صورة قاتمة لسجون أردوغان: «مهما كانت قوتكم الداخلية، السجن فى طبيعته مصدر شلل.. فى ظرف خمس ساعات عبرت خمسة قرون لأجد نفسى فى زنزانة محاكم التفتيش»، ويضيف أنه أدرك بين جدران زنزانته مثل الشاعر الإيرلندى أوسكار وايلد، أن الزمن لم يعد له معنى، مضيفاً: «الهواء والنور فى هذا المكان لا يتغيران أبدا، كل دقيقة تشبه الدقيقة التى سبقتها، كما لو أن نهر الزمن اصطدم بسد وتحول إلى بحيرة جامدة نقبع فى عمقها».

كما كشفت مقالاته عن ملامح النظام القضائى فى تركيا الذى تحول إلى أداة فى يد نظام أردوغان، ويكشف كيف حول الادعاء التهمة الموجهة إليه من إرسال رسائل مموهة لتحريك محاولة الانقلاب فى عام 2016، إلى المشاركة فى محاولة الانقلاب نفسها، وحين سأله أحد القضاة عن هذا الموضوع، أجابه بسخرية: «المدعون العامون يحبون استخدام كلمات يجهلون معناها».

وفى عرضها لرواية «لن أرى العالم مرة أخرى أبداً» كتبت صحيفة الجارديان: «أنتج الروائى التركى المسجون مذكرات رائعة عن اعتقاله وأسره وحثه على الإبداع».