ربيع جودة يكتب: سجن المدبغة

مقالات الرأي

بوابة الفجر


كان لي صديق يعمل في مدبغة للجلود.. ولم يكن من اصدقائنا من يعرف طبيعة عمله سواي.. ذلك لأنه دائماً ما كان يشعر بالحرج من ذكر هذا الأمر.. فالمدبغة تعج بها الروائح الكريهة التي لا تطاق.. ولا يعجبه حديث الناس عنها.. حتي أنه كان يبالغ في أناقة المنظر.. وشياكة الملبس.. ويضع أرقي العطور.. والرحيق الدائم المرتبط بوجوده.. وكان بجوار المدبغة.. مطعماً يتهافت عليه كل من يمر.. وطالما اجتمعنا عليه مع الرفقاء.. دون أن يلاحظ أحدهم أن المدبغة المجاورة يعمل بها صاحبنا.

وذات يوم دعاني صديقي كي أذهب معه إلى المدبغة.. بعد أن أصبح شريكاً فيها.. ولم استطع رفض دعوته.. علماً بأني شديد الحساسية للروائح بشكل عام.. وخاصة الكريهة منها.. لكني لبيت دعوته لقدره عندي .. وحين وصلت  باب المدبغة.. كدت أن أُصرع.. من هول ما شممت.. لكني تمالكت نفسي لشدة الاحراج التي بدا عليها صاحبي.. وهو يعتذر لي.. فقلت لا بأس أبدا.. وتظاهرات أنني بخير.. ودخلنا أروقة المدبغة.. بين الجلود الملقاة.. والابخرة العفنة.. والدماء الفاسدة.. والعجيب أنه لم تمر سوي دقائق.. وبات الأمر عادياً.. فلم أعد أشعر بكريه الرائحة .. وتحدثنا وامتزج الحديث بمذاق القهوة ورائحتها الذكية.. وانتصف اليوم ليطلب لنا صديقي طعاماً من المحل المجاور.

وكان صاحب المحل علي نزاع مع أحد عامليه.. ولكي ينتقم منه العامل.. قام بوضع لحوم فاسدة للزبائن ..  وكان لنا قسطاً منها .. فأكلنا ولم نستطع تمييز رائحتها الفاسدة .. وقبل أن نلتقط أكواب الشاي .. إذا بأصوات الاسعاف تدوي في المنطقة .. وبعد دقائق نقلتنا إحداها الي المستشفي .. وبحمد الله نجونا .. لكنني أدركت درساً آخر .. لا يختلف كثيراً عن وقوفي منذ قليل علي حافة الموت .. وهو  كيف أصبحنا نعيش في تلك  المدبغة الكبيرة .. كيف صار الأمر صعباً .. أن تفرق بين الطيب والخبيث ..  كيف هان علي أم أن تلقي أطفالها في النيل .. أدركت كيف انتهكت المحارم .. وكيف قتلت فتاة المعادي .. كيف انصرم عقد التربية .. حتي سخروا من إذاعة القرآن الكريم..  كيف أصبحت اسرائيل شقيقه وقطر معادية .. كيف صارت العارية أعجوبة .. يتناقل الناس رقصتها ..  بينما صاحبة الإزار  مخيفة الجوار منبوذة  ... كيف تسلسل الخير في جذوع أشجار الزيتون .. بينما صارت ثمار الغرقد شهية الطعم والمذاق.

إنها أسهم المشاركة مع ابليس .. حين أقنعنا بحلاوة العيش مع الرذيلة .. حتي أصبحنا وبكل حسرة خلف قضبان سجن المدبغة