صاحب الأيادى البيضاء وقائد مسيرة الكويت.. الموت يغيّب أمير الإنسانية وعاقل العرب
فقد العرب الثلاثاء الماضى أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، والذى وافته المنية بعد صراع مع المرض، لتفقد الإنسانية والعرب وشعب الكويت رجلا كانت إسهاماته الواضحة فى القضايا الإنسانية، والعربية والعمل على جمع الشمل بين الأشقاء.
ولفقيد العرب الراحل مسيرة حافلة بالعطاء وزاخرة بالإنجازات، تسجل بأحرف من نور جهودا بارزة على مدار 66 عاما من العمل العام قضاها فى خدمة بلاده ودفاعا عن قضايا أمته ودعم القضايا الإنسانية وجهود السلام حول العالم، ليعرف وسط العرب بأنه عاقل العرب وصاحب مبادرات التصالح والتقارب بين الشعوب.
ومنذ عمل أمير الكويت الراحل خلال عمره المديد كانت له اليد البيضاء فى العمل العام، بعد أن تقلد أول مسئولية «عمل عام» فى 1954، وهو فى الـ 25 من عمره، ومرورا بتوليه منصب أول وزير للإعلام بالكويت، ثم منصب وزير الخارجية على مدار 40 عاما، فرئيس للوزراء خلال الفترة من 2003 إلى 2006، ثم أميرا للكويت منذ عام 2006، وما تخلل ذلك من مناصب ومهام ومسئوليات عديدة تولاها، لم يتوان الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح فى خدمة وطنه وأمته والإنسانية بشكل عام، فحققت الكويت فى عهده قفزات تنموية واقتصادية فى مختلف المجالات، وأسهمت وساطاته فى حل العديد من أزمات المنطقة.
1- قائد إنسانى
واشتهر أمير الكويت ببسمته المتفائلة وسياسته الحكيمة، استطاع أن يكسب حب واحترام الجميع، وتوجت مبادراته الإنسانية، التى كانت لها أصداء عالمية بتكريم رفيع من الأمم المتحدة بمنحه فى 9 سبتمبر 2014 لقب «قائداً للعمل الإنساني»، وهو لقب تم اعتماده خصيصاً له نظراً لجهوده فى العمل الإنسانى على الصعد كافة، ولم يتم منح مثل هذا اللقب لأحد من قبل.
2- مسيرة وعطاء
يعد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح الحاكم الـ15 لدولة الكويت الابن الرابع للشيخ أحمد الجابر الصباح الحاكم العاشر للكويت.
ولد فى 16 يونيو 1929، وتوسم فيه والده الفطنة والذكاء منذ صغر سنه، فأدخله المدرسة المباركية ومن ثم أوفده إلى بعض الدول لاسيما الأجنبية منها للدراسة واكتساب الخبرات والمهارات السياسية التى ساعدته فى ممارسة العمل بالشأن العام.
وكان الشيخ صباح الأحمد يرافق والده فى رحلاته الخارجية، الأمر الذى ساعده باكتساب خبرة فى المسائل السياسية خلال وقت مبكر، وأعطاه دراية بالدول ومعرفة بالمسئولين وعدد من الأشخاص البارزين من أفراد شعوب تلك الدول، ما كان ذخيرة له فى مستقبل حياته عن سلوك الحكام وتقديرهم للأمور.
3- قائد سفينة الدبلوماسية
بعد استقلال دولة الكويت عام 1961 عين الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح عضوا فى المجلس التأسيسى الذى عهدت إليه مهمة وضع دستور البلاد، ثم عين فى أول تشكيل وزارى عام 1962 وزيرا للإرشاد والأنباء، التى تحول اسمها بعد ذلك لوزارة الإعلام، ليكون أول وزير لها فى تاريخ الكويت.
وفى 28 يناير 1963، وبعد إجراء أول انتخابات تشريعية لاختيار أعضاء مجلس الأمة عين الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح وزيرا للخارجية، لتبدأ مسيرته مع العمل السياسى الخارجى والدبلوماسية التى برع فيها ليستحق عن جدارة لقب مهندس السياسة الخارجية الكويتية وعميد الدبلوماسيين فى العالم، بعد أن قضى 40 عاما على رأس تلك الوزارة المهمة قائدا لسفينتها.
وإبان عمله وزيرا للخارجية، رفع الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح علم الكويت فوق مبنى الأمم المتحدة بعد قبولها عضوا فيها فى 11 مايو 1963.
وبذل طوال سنوات قيادته لوزارة الخارجية جهدا كبيرا فى تعزيز وتنمية علاقات الكويت الخارجية مع مختلف دول العالم، كما قام بالعديد من الوساطات التى أسهمت فى حل العديد من الأزمات.
وشهدت البلاد نتيجة ذلك استقرارا فى سياستها الخارجية وثباتا اتضحت ثماره فى الثانى من أغسطس عام 1990 عندما وقف العالم أجمع مناصرا للحق الكويتى فى وجه غزو الرئيس العراقى الراحل صدام حسين، والذى أثمر صدور قرار مجلس الأمن رقم 678 الذى أجاز استخدام كل الوسائل بما فيها العسكرية لتحرير الكويت.
4- رجل المهام الخاصة
وعرف عن الفقيد الراحل بأنه رجل المهام الخاصة، نظرا لما يتمتع به من فطنة وذكاء وقدرة فائقة على تحمل المسئولية، فقد أسندت إليه العديد من المناصب، إضافة إلى منصب وزير الخارجية، حيث عين وزيرا للإعلام بالوكالة فى الفترة من 2 فبراير 1971 وحتى 1975.
وفى 16 فبراير 1978 عين نائبا لرئيس مجلس الوزراء الكويتى، ثم فى 4 مارس 1981 تسلم حقيبة الإعلام بالوكالة، إضافة إلى وزارة الخارجية حتى 9 فبراير 1982.
وفى مطلع مارس 1985 عين نائبا لرئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية حتى 18 أكتوبر 1992 عندما تولى منصب النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية.
وأسندت إليه مهمة تشكيل الحكومة الكويتية بالنيابة عن ولى العهد ورئيس مجلس الوزراء آنذاك الأمير الراحل الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح بسبب ظروفه الصحية، وذلك يوم 14 فبراير 2001.
فى 13 يوليو 2003، خطى أمير الكويت الراحل، خطوة فى مسئولية الوطنية فى الكويت، حيث صدر مرسوم أميرى بتعيين الشيخ صباح الأحمد رئيسا لمجلس الوزراء، ليسجل نجاحا جديدا فى قيادة دفة السياسة الداخلية، كما نجح على مدار 40 عاما فى قيادة السياسة الخارجية لبلاده.
منذ اللحظات الأولى لتوليه منصب رئاسة الوزراء، حرص الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح على تبنى رؤية شاملة وعميقة للتنمية فى الكويت تطول مختلف قطاعات الدولة، وعلى رأسها القطاع الاقتصادى، فقام بتشجيع القطاع الخاص وفتح فرص العمل الحر أمام الشباب من خلال دعم المشروعات الصغيرة.
واستمر فى مسيرة العطاء رئيسا للحكومة الكويتية حتى يناير عام 2006، عندما اجتمع مجلس الوزراء واتخذ قرارا بالإجماع بتزكية الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أميرا للبلاد، وحصل على مبايعة مجلس الأمة الكويتى.
5- نهضة الكويت
ومنذ ذلك اليوم التاريخى، وعلى مدى يقرب من 15 عاما من تولى الشيخ صباح الأحمد مقاليد الحكم شهدت البلاد نهضة تنموية شاملة.
وتم افتتاح مجموعة من المشاريع الضخمة، من أبرزها مدينة «صباح الأحمد البحرية» التى تعد أول مدينة ينفذها القطاع الخاص كاملا، ما يدل على تشجيعه على إعطاء دور أكبر للمساهمة فى تنمية الكويت وتنشيط عجلة الاقتصاد.
أيضا من أبرز تلك المشاريع «مركز عبدالله السالم الثقافى» و«مدينة الكويت لرياضة المحركات» و»مدينة الجهراء الطبية» و«مبنى الركاب الجديد رقم 4» فى مطار الكويت الدولى و«مستشفى جابر الأحمد»، بالإضافة إلى تصدير أول شحنة نفط خفيف.
ولم يغفل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح إدراك أهمية بناء المجتمع الكويتى من الداخل والحفاظ على وحدته وتماسكه فى ظل التحديات التى تعصف بالمنطقة من حين لآخر، فكان التفجير الإرهابى الذى تعرض له مسجد الإمام الصادق فى 26 يونيو 2015 أكبر دليل على تلاحم القيادة والشعب فى مشهد مهيب وقف له العالم إكبارا وتقديرا.
فبعد فترة قصيرة من وقوع حادث التفجير الإرهابى الذى أودى بحياة 26 شهيدا وعشرات الجرحى سارع إلى الحضور شخصيا إلى موقع الحادث غير عابئ بالأخطار التى قد تحيط به أو تهدد سلامته، ليطلق جملته الإنسانية الشهيرة «هذولا عيالى».
كما تم فى عهد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح عودة الخدمة العسكرية الوطنية «التجنيد الإلزامي» عام 2017، بعد توقف 16 عاما.
6- الانتصار لحقوق المرأة
حققت المرأة الكويتية فى عهد الشيخ صباح الأحمد إنجازات بارزة، حيث وزّرت أوّل امرأة فى حكومة برئاسته عام 2005، تلا ذلك مشاركتها فى العملية الانتخابية فى أوّل انتخابات نيابية بعد توليه الحكم.
وفى أبريل 2006، سجلت الانتخابات التكميلية للمجلس البلدى حدثا فريدا فى تاريخ المرأة السياسي؛ إذ مارست حقها لأول مرة ترشيحا وانتخابا، وفى يونيو من العام نفسه، وافق مجلس الوزراء على تعيين امرأتين من بين 6 شخصيات لعضوية المجلس البلدى لأول مرة فى تاريخ الكويت. ثمَّ تُوجّت سياسته الإصلاحية تلك بدخول المرأة لأوّل مرة عضوًا فى مجلس الأمة فى ثالث انتخابات نيابية تجرى فى عهده عام 2009، وقد سمح للمرأة بدخول السلك العسكرى.
7- مساندة مصر
أثناء ولاية أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد، لم ينس المصريون وقفة الكويت تحت قيادته مع الأشقاء العرب فى السعودية والإمارات والبحرين إلى جانب الشعب المصرى عندما قامت ثورة 30 يونيو، سواء بدعم مصر اقتصاديا وسياسيا، للعبور إلى منطقة الأمان من المخاطر التى كانت تحيط بها.
كما شهدت فترة حكمه الحرب على تنظيم الإخوان الإرهابى واتخذت مرحلة جديدة حاسمة، بدأت مع إعلان السلطات الكويتية، فى 12 يوليو 2019، القبض على «خلية إرهابية» مرتبطة بـ»الإخوان» فى مصر، صدرت ضد أعضائها أحكام بالسجن تصل إلى 15 سنة من محاكم مصرية، وتبعتها اعتقالات أخرى مرتبطة بالخلية نفسها.
ورغم أن هذه ليست المرة الأولى التى تعلن فيها الكويت اعتقال عناصر إخوانية هاربة من مصر، فإنها المرة الأولى التى تكشف فيها صراحة عن انتماء العناصر المعتقلة لتنظيم الإخوان.
8- عطاء وتقدير
تلك المسيرة الحافلة بالعطاءات والإنجازات، حصل خلالها الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح على عدة أوسمة تقديرا لجهوده البارزة.
وإضافة إلى تكريمه من قبل الأمم المتحدة عام 2014، ومنحه لقب «قائد العمل الإنساني»، وحصوله على «وسام زايد» عام 2006، حصل أيضا على قلادة الملك عبد العزيز آل سعود من السعودية، ووسام الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة من الدرجة الممتازة من مملكة البحرين، ووسام عمان المدنى من الدرجة الأولى من سلطنة عمان، ووسام جوقة الشرف الأكبر من الجمهورية الفرنسية.
كمال نال وسام الاستحقاق اللبنانى من الدرجة الاستثنائية برتبة وشاح أكبر من الجمهورية اللبنانية، ووسام الاستحقاق الرئاسى لجمهورية إيطاليا، ووسام الاستحقاق الرئاسى لجمهورية ألمانيا، وقلادة كريسا نثموم الإمبراطورية من اليابان، والوسام الأعظم من طبقة باث من ملكة المملكة المتحدة إليزابيث الثانية الذى تسلمه منها خلال زيارته الرسمية للمملكة المتحدة فى نوفمبر 2012، بجانب حصوله على شهادة الدكتوراه الفخرية فى القانون من جامعة جورج واشنطن التى تسلمها فى يونيو 2005. لتشهد هذه التكريميات والأوسمة على أيادى الأمير البيضاء ومبادراته السامية ومسيرة الخير والسلام والوفاق على كل المستويات لشعبه والعمل والإنسانية.
