رامى المتولى يكتب: The Devil All the Time.. التدين والتقاليد لم ينقذا المجتمع الأمريكى من العنف

مقالات الرأي




الحرب العالمية الثانية من أكثر الأحداث التى أثرت على العالم فى القرن العشرين وشكلت لحد كبير جزءا من سياساته وما زالت آثارها باقية حتى هذه اللحظة، لكن التغيرات الاجتماعية التى أحدثتها هذه الحرب على قارة أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية كبيرة وضخمة، فى الوقت الذى انتهت فيه الحرب بالولايات المتحدة منتصرة على دول المحور وكانت شريكا رئيسيا فى النصر بقواتها ومعداتها العسكرية وترسانة التطوير والتكنولوجيا الكبيرة للأسلحة بخلاف القوة البشرية الذين حسموا الصراع معًا ووفروا لها سيادة على العالم، لكن المجتمع الأمريكى المحافظ بطبعه بصورته التقليدية تحول لحد كبير فى زمن لم يكن فيه مصطلحات مثل اضطراب ما بعد الصدمة منتشرا، وقتها كانت الفكرة عن الحرب هى صراع بين أفكار وما تعبر عنه هذه الأفكار، القادة لم يضعوا فى حسبانهم تأثير مثل هذه الحرب بكل ضخامتها والأهوال بها على نفسية البشر.

الآن وبعد سنوات طويلة من دراسة التأثير النفسى للحروب على الإنسان، تمكنا من قراءة وفهم التأثير المدمر الذى أحدثته، التحول الذى طال المجتمع الأمريكى بشكل خاص لافت بداية من تغير شكل الأسرة، وبالتالى المجتمع ومعه تغيرت أشكال الجريمة ونوعيتها حتى التعاطى مع القضايا الاجتماعية والعرقية نفسه تغير، تحول المجتمع الأمريكى بشكل خاص والعالم بشكل عام لمجتمعات أكثر قسوة وأكثر تطرفًا عن ذى قبل، الجنود العائدون من الحرب العالمية الثانية لم يكونوا ليدركوا أنهم مصابون باضطرابات ما بعد الصدمة وأنهم يحتاجون لإعادة دمج فى المجتمع وأن الدين والعائلة وحدهم ليسا كافيين للتعافى والشفاء.

من هذا المنطلق نستطيع تفكيك فيلم The Devil All the Time المستوحى من رواية تحمل نفس العنوان صدرت عام 2011 للكاتب دونالد راى بولوك، والتى تعتمد على نفس الشخصيات الرئيسية فى الفيلم الذى تدور أحداثه فى الفترة من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف الستينيات، دائرة مغلقة تكشف لحد كبير ازدياد العنف ومستويات الصدمة النفسية التى أصابت الجميع من منصب رئيس الولايات المتحدة حتى شاب مراهق ولد بعد الحرب العالمية الثانية لكنه ذاق من آثارها والسبب والده.

فى الوقت الذى نظن أن الولايات المتحدة انتصرت فى الحرب العالمية الثانية الفيلم يخبرنا بالعكس، من خلال الجندى ويليام راسل (بيل سكارسجارد) الذى أنهى الحرب العالمية الثانية يقتله عريف فى الجيش الأمريكى تركه اليابانيون مصلوبًا بعد تعذيبه فى العراء، قراره جاء لينهى عذاب مواطنه رحمة به، لكن تأثير الواقعة عليه لم يزل حتى أقدم على إنهاء حياته بنفسه، رمزية المشهد ترسم لحد كبير التأثير المدمر للحرب على المواطن الأمريكى، وأن قتل الجندى لجندى آخر مثله برصاصة رحمة ليس إلا لمحة عما هو قادم وأن النيران الصديقة لم تكن رحيمة بالأحياء كما فعلت مع الأموات.

ويليام راسل اتخذ عدة قرارات مصيرية فى مستقبله ومستقبل آخرين بعد عودته من الحرب، على رأسها رفضه لهيلين (ميا فاشيكوفسكا) الشابة التى اختارتها له والدته لتكون زوجته، وفى اليوم الذى يتقابلان فيه للمرة الأولى فى الكنسية أثناء عظة الأحد تقابل هيلين زوجها المستقبلى الواعظ روى (هارى ميلينج)، ورفضه راجع لأنه وقع فى غرام النادلة شارلوت (هالى بينيت) التى التقاها فى طريق عودته لبلدته الصغيرة بعد الحرب، كلا الزوجين أنجب فى مناطق بعيدة جدًا عن بعضهما البعض والقدر جمع بين ابن ويليام وشارلوت، أرفين (توم هولاند) وابنة روى وهيلين، لينور (إليزا سكانلين)، ويجمع هذا التقاطع زوجين من القتلة المتسلسلين كارل (جايسون كلارك) وساندى (رايلى كيو)، الأحداث خلال 20 عاما تدور فى فلك هؤلاء الثلاثة وزوجاتهم وكيف انتقل ميراثهم الدموى والنفسى للأبناء ومن ثم للولايات المتحدة.

الدائرة المغلقة التى تسير فيها أحداث الفيلم تبدأ بالنهاية المأساوية للحرب العالمية الثانية من منظور ويليام، وينتهى بتفكير أرفين فى الانخراط فى الجيش بعد قرار الرئيس الأمريكى جونسون بزيادة أعداد القوات الأمريكية فى فيتنام، لنكتشف ونحن نلقى هذه النظرة المقربة على العائلات الثلاث وما حدث أننا مررنا بتوابع عنيفة للحرب على المستوى الدولى أثرت على المجتمع الأمريكى أهمها الحرب بين فيتنام الشمالية والجنوبية كنتيجة للاستقطاب الذى تلى الحرب العالمية الثانية مكونًا قطبين فى العالم رأسمالى متمثل فى الولايات المتحدة وحلفائها وشيوعى متمثل فى الاتحاد السوفيتى وحلفائه، وما بينهما دخلت فيتنام فى حرب أهلية تحولت لمستنقع جذب ودمر جيلا جديدا من الشباب الأمريكيين الذين انخرطوا فى الحرب بعد أقل من 20 عامًا على نهاية الحرب العالمية الثانية، أى ان الأطفال الذين احتفلوا بنصر أمريكا عام 1945 وولدوا بعدها وعانوا من تبعات التأثير النفسى المدمر على آبائهم العائدين من الحرب وقبل أن يشبوا ذهبوا لحرب أخرى ساهمت فى تدمير آخر وهكذا، هذا بخلاف اغتيال الرئيس الأمريكى كيندى وكرد فعل من نائبه جونسون الذى تولى المسئولية بعد اغتياله صعد من سخونة الأحداث وأرسل جنودا أكثر.

زرع هذه التفاصيل فى الفيلم لم يأت من فراغ، كما رصد المخرج الكبير ألفريد هيتشكوك التحول الدموى للمجتمع من خلال عدد من أفلامه منها Psycho، نرصد من خلال هذا الفيلم المحلى الذى تدور أحداثه فى بلدتين لا تظهران على الخريطة بينهما شبكة معقدة من الطرق، تمسك سكانهما بالحفاظ على التقاليد والتدين لكن أيا منهما لم ينقذ مجتمعاتهما من المد القوى وسقط الأبرياء كضحايا للحرب وآثارها وسذاجة هذا المجتمع نفسه وعدم إدراكه للتغير الواضح.