عادل حمودة يكتب: عملية المخابرات الأمريكية لإنقاذ عـرش الملك فاروق سميت «الزير السمين»

مقالات الرأي




الخطة دعت الملك للقيام بثورة على نظامه يحقق فيها العدالة الاجتماعية على طريقة أمير المؤمنين 
كيرميت روزفلت ضابط المخابرات المسئول عن الشرق الأوسط: فاروق ثقيل الوزن خفيف العقل سنبحث عن بديل آخر له

عبد الناصر: تنظيمنا لم يزد عن تسعين ضابطًا ونسبة الفشل أكبر من نسبة النجاح

كريم ثابت: فاروق كان مصاباً بالفصام تتصارع فى داخله شخصيتان إحداهما دفعته للخطف والنهب والسرقة

النظام الملكى كان ميتًا على طريقة النبى سليمان يحتاج لأن تسقط عصاه حتى تبدأ مراسم دفنه

حركة يوليو نجحت صدفة عندما تحرك يوسف صديق قبل ساعة الصفر واستولى على مقر قيادة الجيش دون مقاومة

ولد «هنرى جيكل» فى عائلة ثرية لكنها متزمتة.. صارمة.. تجنح نحو الشدة.. لم تسمح له بالتعبير عما يعتريه من نزوات صغيرة.. أجبرته على كبتها.. وبمرور الزمن تضخمت النزوات الصغيرة حتى أصبحت شهوات مجنونة تزين له الشرور والآثام.

لكن ما أن يرتكبها حتى يشعر بالندم ويسترد الحنين للخير.

وما أن أصبح طبيبا حتى أدرك أن الإنسان ليس واحدا وإنما اثنان وربما أكثر.

بخبرته العلمية توصل إلى تركيبة كيميائية تفصل الشخصيتين عن بعضهما البعض وقرر أن يبدأ بنفسه.

ما أن شرب السائل العجيب حتى تحول إلى شخص آخر أخف وزنا وأصغر سنا وأكثر شرا.. بل يستمتع بالشر.. وسمى نفسه وهو على هذه الحالة مستر «إدوارد هايد».. وبجرعة أخرى من الشراب عاد إلى شخصيته الأولى.

وهكذا خرجت للحياة شخصيتان كانتا تتصرعان فى أعماقه.. دكتور جيكل الطيب ومتسر هايد الشرير.. ولكن.. فى لحظة ما.. فرض مستر هايد نفسه على دكتور جيكل حتى سيطر عليه تماما.. وحرمه من حياته.. بل أجبره على كتابة وصية يتنازل له فيها عن كل ثرواته.

ما أن نشر الكاتب الإنجليزى روبرت لويس ستيفنسون فى عام 1886 تلك القصة تحت عنوان «الحالة الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد» حتى طار بها علماء النفس فرحا فقد هدتهم إلى تشخيص مرض الفصام (أو الشيزوفرانيا) الذى احتاروا فى تشخيصه.

مرض خطيريسبب اضطرابا نفسيا للمصاب به.. يجبره على سلوكيات اجتماعية مستهجنة.. الخطف والسرقة والقمار وتجاوز الحدود الأخلاقية وارتكاب المحرمات مثلا.

وتتضاعف تلك الأعراض إذا كان المصاب قويا قادرا ثريا ملكا سلطانا حاكما يقدر على النجاة من العقاب بماله أو بجاهه أو بسلطانه.

لنتأمل حالة الملك فاروق بن فؤاد بن إسماعيل بن إبراهيم بن محمد على لندرك أننا أمام نموذج صارخ للمصاب بالشيزوفرانيا أو الفصام أو انقسام الشخصية.

فى كتابه عن طلاق الإمبراطورة فوزية من شاه إيران يكشف سكرتيره الصحفى وكاتم أسراره كريم ثابت بوضوح لا يقبل الشك أن فى حياته فاروق «يعرفه» وفاروق «لا يعرفه» ولن يعرفه.

وحسب ما كتب:

لم يكن فاروق رجلا يعوزه ذكاء أو تنقصه فطنة.

ولكن الرجل الآخر فى شخصه كان يسدل على ذكائه وفطنته ستارا من الشهوات والنزوات ويوقف نشاطهما كلما شاءت المقادير أن يسيطر على إرادته وأن يسلبه مشيئته.

بل إن كريم ثابت يدلل على وجود رجلين فى جوف فاروق بسرد وقائع يتصرف فيها الأول بكياسة وروية وإنسانية سرعان ما ينسفها الثانى وضرب مثلا على ذلك.

فاروق الثانى: من مصلحة فاروق أن يطلق الشاه فوزية ومصلحة الملك فوق كل مصلحة.. إذا قضت مصلحته أن تكون فوزية تعيسة فى زواجها فلتكن تعيسة فى زواجها ولو كانت أكثر نساء الأرض سعادة.. وإذا اقتضت مصلحته أن تتزوج فوزية الشاه فلتتزوج الشاه ولو لم تكن تحبه.. وإذا اقتضت مصلحته أن تطلق منه فلتطلق منه حتى ولو أحبته.

فاروق الأول: حرام عليك أن تحرضه على عمل كهذا ألا ترى أنك تدنيه كل يوم من الهاوية أكثر من اليوم الذى قبله؟.

فاروق الثانى: اسكت فقد يدارى سكوتك جبنك وخوفك وتخاذلك وأعلم أن مشيئة الملك يجب أن تكون فوق كل مشيئة وأن مصلحته يجب أن تكون فوق كل مصلحة وفوق كل اعتبار.

فاروق الأول: اسكت أنت يا مستهتر.. يا عدو.

فاروق الثانى: أنا عدو؟.

فاروق الأول: بل شر الأعداء جميعا.

وتماسك الرجلان وتصارعا صراعا عنيفا خرج منه الرجل الأول مقهورا.

فى حالة الفصام التى تمكنت من الملك فاروق انتصر مستر هايد على دكتور جيكل فى المواقف التى تصارعا عليها وكانت النتيجة سيئة بكل المقاييس.

دمر زواج شقيقته.. حرمها من ابنتها شاهيناز بهلوى التى بقيت فى إيران.. سرق ما فى حقائبها من مقتنيات شخصية ثمينة ليوزعها هدايا على عشيقاته.. خطفها ليلا وهى إمبراطورة من قصر الضيافة فى أنطونيادس إلى قصر المنتزه ليحرج الشاه وحاشيته ويفسد العلاقات بين القاهرة وطهران.

وربما لن يصدق أحد أن جمال عبد الناصر فيما بعد كان أكثر رحمة فى التعامل مع الأميرة فوزية من شقيقها.

اختار لها قصرا مناسبا فى الإسكندرية حى سموحة تسكنه هى وعائلتها وخصص لها طاهيا وخادمين وسائقا للسيارة وخطى تليفون.

وفيما بعد فوجئ سكرتير مبارك اللواء أبو الوفا رشوان بتليفون غير متوقع منها تشكو فيها من قطع التليفونين ووفاة الطاهى وغياب السائق وتطلب منه إبلاغ الرئيس بما وصلت إليه حالتها.

لم يتردد مبارك فى إصدار تعليماته إلى محافظ الإسكندرية وقتها اللواء عادل لبيب بتنفيذ طلبات الأميرة والإمبراطورة سابقا.

كانت الانتصارات التى تسعد فاروق صغيرة.. لم تعوضه عن هزائمه الكبيرة.. وفى النهاية سقط بسهولة مثيرة للدهشة من فوق عرشه وعرش أجداده.. فى زمن يحسب بالساعات والدقائق أجهز على أقدم وأعرق أسرة مالكة فى الشرق الأوسط.

بل.. ربما كان النظام متوفيا.. ولكن.. لا أحد انتبه لذلك إلا بعد أن سقط.. مثل النبى سليمان الذى لم يكتشفوا وفاته إلا بعد سنة كاملة عندما أكلت الأرض عصاه التى كان يتكئ عليها.

والمؤكد أن أعراضا تلاحقت فى الظهور لتشير بوضوح إلى أن صحة النظام فى تدهور متزايد السرعة ولكن فاروق لم يقتنع بما كان ملمومسا ومحسوسا ولم يأخذ عروض العلاج بجدية ولم يقبل بما اقترح عليه من دواء.

وفى ذلك الوقت القريب بدا ثقيل الوزن خفيف العقل مثل «زير سمين» حسب وصف كيرميت روزفلت.

وكيرميت روزفلت أو «كيم» حفيد الرئيس الأمريكى تيودور روزفلت.. ولد فى مدينة بوينس أيرس عاصمة الأرجنتين يوم 16 فبراير 1916.. درس فى جامعة هارفارد.. أصبح أستاذا لمادة التاريخ فى جامعة كاليفورنيا.. انضم إلى إدارة الخدمة الاستراتيجية فى سنة 1943.. نواة وكالة المخابرات المركزية التى أعلنت سنة 1946.

اختير ليكون مسئول الوكالة فى منطقة الشرق الأوسط وكان مقره الرئيسى فى بيروت.. وبحكم دراسته الأكاديمية كان وجوده فى القسم الثقافى فى السفارة الأمريكية هناك «غطاء» مناسبا لعمله السرى والخفى.

فى سنة 1944 وكان عمره 28 سنة عمل مساعدا للدكتور ستيفن بنروز الذى أصبح فيما بعد مدير الجامعة الأمريكية فى بيروت.

ولم يمر وقت طويل حتى أدرك أن تحريك الأحداث فى الظلام يجذبه ويثيره ويستهويه أكثر من البحث عن جمع المعلومات العلنية وتحليلها.

وفيما بعد اعترف فى مذكراته أنه كان يجد «لذة» لا حد لها فى أعمال المخابرات الغامضة.. وبسبب خجله من الإساءة إلى عائلته الأرستقراطية لم يرتكب الأفعال الطائشة للمراهقين.. لم يدخن ولم يقد سيارته بجنون ولم يقرأ رواية محرمة ولم يتصفح مجلة عارية.

باختصار لم يعش سنوات الصبا بحرية مما ضاعف من ميله للعمليات السرية فنفذها بدم بارد دون حساب للضحايا أو للقيم السياسية والأخلاقية.

وأشهر ما نفذ عملية «سوبر أجاكس» التى أعاد بها شاه إيران إلى عرشه فى صيف عام 1953 بعد أن أمم رئيس الحكومة المنتخب محمد مصدق شركات البترول.

وصل كيم إلى القاهرة بجواز سفر يحمل فيه صفة «المستشار السياسى للرئيس الأمريكى» وبتلك الصفة تقرب من فاروق وأصبح مقربا منه لا يكف عن زيارته كلما جاء إلى مصر وكثيرا ما استمع إلى غضبه المكتوم من الإنجليز الذين أهانوه وكان يطيب خاطره قائلا:

بعد الحرب يا جلالة الملك ستقوم حقبة جديدة ستنعم فيها مصر بسيادة حقيقية ويكون سموكم أول حاكم يحكم مصر المستقلة منذ ألفى سنة.

كان كيم يرصد أعراض تدهور النظام ويسجلها فى برقيات ومذكرات كشف عنها مؤخرا وسنعتمد على كثير منها فى سرد الرؤية الأمريكية لما حدث لعلها تمنحنا ما يؤكد أو ينفى الروايات المصرية والبريطانية.

اعتبر كيم حادث 4 فبراير 1942 بداية الحمى.

فى ذلك اليوم الأسود حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين وخيرت الملك بين تعيين مصطفى النحاس رئيسا للحكومة رغم أنفه أو التنازل عن العرش.

وشعر ضباط الجيش بالعار وتمنوا الانتحار على طريقة السامورى فى اليابان ولولا خوفهم من الله لنفذوا ما فكروا فيه وهو ما ذكره لى محمد نجيب فيما بعد وأنا أسجل مذكراته التى نشرت تحت عنوان «كنت رئيسا لمصر».

وتحول الشعور بالعار إلى شعور بالغضب بعد الهزيمة التى لحقت بالجيش المصرى فى فلسطين بسبب أسلحة فسدت من الرطوبة اشتريت على عجل من مخازن الجنرال اليونانى جورجيوس جريفوس التى جمعها من بقايا الحرب العالمية الثانية ليحقق الوحدة لبلاده.

وتزايد الشعور بالغضب عندما بدا الملك مهتما بحياته الشخصية بطلاق زوجته فريدة فى وقت تمكنت فيه القوات الإسرائيلية من تقسيم الجيش المصرى إلى قسمين كل منهما معزول عن الآخر وأجبر قادته على التفاوض وفك الاشتباك مع العدو متجرعين مزيدا من المرارة.

وفى الوقت نفسه اختار الملك لإعلان طلاقه طلاقا آخر هو طلاق شقيقته فوزية من شاه إيران محمد رضا بهلوى.

وما أن هدأت الأنفاس ولو بحثا عن قليل من الراحة حتى احترقت القاهرة فى يوم 26 يناير 1952 اليوم نفسه الذى اختاره الملك لتقديم ولى عهده أحمد فؤاد الثانى من زوجته الثانية ناريمان صادق إلى ضباط الجيش والبوليس.

وبنزول الجيش إلى شوارع العاصمة لحفظ الأمن بدا واضحا أن نزوله مرة أخرى ممكنا ولكن لإسقاط النظام.

وهذا ما حدث بعد نحو ستة شهور بسهولة غير متخيلة وكأننا أمام سكين شديد السخونة يشق مستمتعا قلب قالب زبد.

وخلال السنوات العشر الأخيرة للنظام تلقى فاروق طعنات مسمومة من أمه الملكة نازلى وشقيقته الأميرة فتحية وزوجته الملكة فريدة ومع إدراكه بأنه لا يقدر على إسعاد امرأة فى الفراش بسبب خلل فى الغدد المسئولة عن الجنس وجد نفسه يعوض عجزه بإفراط فى الطعام بلا شعور بالشبع وقضاء ساعات طويلة فى القمار وإصابة مؤكدة بداء السرقة والخطف والنهب والميل نحو الظهور مع أجمل النساء ولو انتهت السهرة فقط بقبلة على الخد.

تكاتفت الاعتبارات السياسية والفضائح الشخصية وراحت بقوة جبارة تدفع النظام نحو الهاوية وفى ذلك الوقت الحرج وصل كيم إلى القاهرة سرا فى مهمة محددة إنقاذ عرش فاروق من السقوط.

كان ذلك فى بداية شهر فبراير 1952.

ما أن حطت طائرته حتى تقدم منه شاب مهذب من الديوان الملكى ليخرجه من القاعة الملكية وحملت السيارة التى أقلها شعارا ملكيا وبعد نحو الساعة وجد كيم نفسه فى استراحة فاروق المطلة على الأهرام.

رفض كيم إضاعة الوقت فى مجاملات الشراب والطعام واتجه مباشرا نحو الهدف قائلًا:

لابد من عملية تجميل سياسى تقوم بها على وجه السرعة.

سأل الملك:

كيف؟.

لا تؤاخذنى يا صاحب الجلالة لو قلت إن عليك استعادة الثقة فى نفسك وتخفيف بدانتك وتزيل الأوحال التى علقت بسيرتك وسمعتك.

قال الملك:

لكن لو نفذت ذلك هل تضمن استعادة تأييد الشعب لنا؟.

أجاب كيم:

إننا لم نتحدث بعد عن الخطة التى أحملها.

واستطرد:

الخطة أن تقود البلاد إلى ثورة سلمية تطرد الإنجليز وتخفف من قسوة الإقطاع وتفرض ضرائب تصاعدية على الأرباح الرأسمالية لتوحى بالسير نحو العدالة الاجتماعية لتجنب الثورة الشيوعية التى تدفع إليها أحزاب يسارية نشطة ومنتشرة.

سأل الملك:

وكيف نبدأ؟.

أجاب كيم:

إن مصر دولة إسلامية ولا يمكن أن تحكمها دون أن تنمى الشعور الدينى لدى شعبها حتى تحميها من الخطر الشيوعى وتحمى عرشك مما يهدده ومع التخلص من رموز الفساد وتوفير مكاسب ضرورية للطبقات الدنيا سيضاعف الشعب من حبه لك والأهم أنك ستستمر فى حكمك دون متاعب.

إن كيم بحكم فهمه للعوامل التى تحكم منطقة الشرق الأوسط لم يكن ليتجاهل تأثير الأديان السماوية التى هبطت فيها بل اعتبرها العنصر الأهم والأخطر فى رسم السياسات الإقليمية التى تسير عليها.

وكانت خطته فى إعادة صياغة الملك فاروق تبدأ بأن يخلع ثوب الملك الفاجر ويرتدى ثوب الملك الورع ولا مانع بالتشبه بأمراء المؤمنين ألم يطلق عليه والده اسم الفاروق إعجابا بعمر بن الخطاب؟.

ومع أن الخطة بدت مثيرة للدهشة وربما مثيرة للسخرية أيضا فإن كيم لم يتردد فى تنفيذها قائلا:

نحن فى الشرق وطن المعجزات والنبوءات وألف ليلة وليلة الذى لا يعتبره الشرقيون كتابا خرافيا يتسلون به قبل النوم وإنما يعتبرونه دستوراً دائماً يقتبسون منه مفرادت حياتهم: الخلافة والجنس والثأر والشرف والمسبحة والنشوق والتكية والضريح والدراويش والأدعية والسياف والولى الذى يحكم بأمره ويقول إنه يحكم بأمر الله.

لمدة أسبوعين حاول كيم إقناع فاروق بخطته ولكنه فشل والسبب أن فاروق «لم يكن من ذوى الأوزان العقلية الثقيلة» على حد وصف كيم نفسه حسب ما نشر مايلز كوبلاند فى كتابه المثير «اللاعب واللعبة».

كان كوبلاند ضابط المخابرات المركزية المسئول مباشرة عن مصر وكان عليه ــ فيما بعد ــ تمثيل دور جمال عبد الناصر فى «لعبة الأمم» للتنبؤ بتصرفات وقرارات البكباشى الذى أسقط الملكية.

ذكر كوبلاند على لسان روزفلت:

إنه لاحظ أن الملك كان يوافق على اقتراحات العلاج التى تنقذ عرشه ثم يختفى فى اليوم التالى عن الأبصار فى نزوة من نزواته ينسى فيها كل ما هو مهم.

إننى أعرف أن فاروق ملك جاهل لم يتلق تعليما مؤثرا خارج المواخير والكباريهات ولكنى تصورت أن وجوده فى الحكم منحه موهبة فطرية ضاعفت من شعوره بغريزة البقاء ولكنه كبر فى السن دون أن يصبح رجلا.

لم يستوعب فاروق الخطة كاملة واكتفى بأن سعى لإثبات نسبه إلى نبى المسلمين دون أن يفكر فى الجزء الأهم المتعلق بتحقيق العدل الاجتماعى والتخلص من الفساد السياسى فجلب على نفسه السخرية وعجل بسقوطه فى الهاوية.

فى 6 مايو 1952 نشرت الصحف بيانا لنقيب الأشراف السيد «محمد الببلاوى» يقول فيه: إن نسب فاروق يرجع إلى السلالة النبوية من ناحية جده لأمه «محمد شريف».

وجاء ذلك البيان بعد أن طلب فاروق من وزير الأوقاف حسين الجندى وناظر الخاصة الملكية مراد محسن تشكيل لجنة من المشايخ لبحث هذا النسب وحصل الملك على ما أراد مقابل التبرع للأزهر وبعد أن خلع رتبا ونياشينا على من تجاوز ضميره الدينى والمهنى ومنحه لقب «خليفة المسلمين».

وحتى يبدو الملك مقنعا أطلق لحيته.

ولكن لم تفلح محاولة تبييض السمعة فقد سخر المصريون منه ووصفوه: بـ «خليفة المسلمين فى أوبرج الأهرام» بعد أن كانوا يصفونه بـ «ملك مصر والسودان وسامية جمال».

وبعد قرابة الشهر غادر كيم القاهرة وهو موقن بأن «لا مجال للعمل فى مصر طالما بقى فاروق متربعا على العرش.

والمقصود أنه لابد من الإطاحة بفاروق والبحث عن بديل مناسب.

وحسب كوبلاند أيضا فإن كيم سمع بتنظيم الضباط الأحرار وسعى للتواصل معه ولكن هيكل ينكر ذلك وإن يعترف بأن كيم التقى برموز يوليو وعلى رأسهم عبد الناصر وتناولوا معه العشاء أكثر من مرة وكان هيكل ومصطفى أمين على المائدة يرصدون ويحللون.

لم ينكر كيم فى التقرير الذى رفعه بعد عودته إلى واشنطن فى منتصف مارس أن تنظيم الضباط الأحرار ليس قويا بالقدر الكافى ورغم ذلك ففرصته فى الوثوب إلى الحكم مغرية «بسبب ضعف النظام الملكى إلى حد الهزال».

مضيفا: إن ذلك التنظيم السرى فى الجيش لم يكن بعيدا عن أعين الملك ولكنه لم ينل منه ما يستحق من اهتمام.

وأضاف: «نعم كان تنظيما ضعيفا ولكنه كان أقوى الضعفاء».

وحسب خطاب عبد الناصر الشهير الذى تحدث فيه عن نجاح مصر فى الصناعة «من الإبرة إلى الصاروخ» فإن عدد الضباط الأحرار الذين أسقطوا النظام لم يزد عن تسعين ضابطا من الرتب الصغيرة مما جعلهم يتوارون وراء اللواء محمد نجيب وكان النجم الوطنى الساطع فى الجيش بعد فوزه فى انتخابات نادى الضباط على مرشح السرايا.

وحسب شهادة هيكل الحلقة 45 من الحلقات المسجلة لقناة الجزيرة فى 2006 فإن الضباط الأحرار لم يتصوروا أن الاستيلاء على قيادة الجيش أسقط النظام وعاشوا أياما من الفوضى لا يعرفون كيف يتصرفون فى السلطة التى وجدوها فى حجرهم ولم يكن فى خطتهم التفكير فى الاستيلاء عليها فكل ما كانوا يطمحون إليه هو رد الاعتبار للجيش بعد ما نالت سمعته من سوء.

ويجزم هيكل أن الانقلاب نجح صدفة عندما التبس الأمر على يوسف صديق فتحرك مع جنود كتيبته قبل ساعة من الموعد المتفق عليه واستولى على القيادة رغم أنه كان مصابا بمرض صدرى ويخرج الدم من فمه مع سعاله الممزوج بدخان السجائر.

لم يتمتع الضباط بخبرة الثورات.. لم تكن لهم أيديولوجية واضحة.. خليط من اليساريين والمستقلين والإخوان المسلمين.. تجمعهم قوة بدنية.. وتنقصهم الخبرة السياسية.. واحتاج عبدالناصر إلى سنتين تقريبا بعد نجاح الحركة لينشر كتاب «فلسفة الثورة» الذى صاغه هيكل.

إنها المرة الأولى التى نقرأ عن فلسفة ثورة وضعت بعد نجاحها وليس قبل القيام بها ولهذا السبب وصف ما حدث ليلة 23 يوليو بالانقلاب حتى طالب الدكتور طه حسين فى مقال نشرته مجلة «التحرير» بتغيير الوصف من انقلاب إلى ثورة.

وكان لدعوته ما يبررها فالانقلاب تغيير فى رأس النظام مع بقاء توجهاته وتصوراته وعلاقاته على ما عليه بينما الثورة تغيير شامل فى التوجهات والتصورات والعلاقات والمسئوليات والشخصيات.

والمؤكد أن صدور قانون الإصلاح الزراعى فى 9 سبتمبر 1952 بعد 46 يوما فقط وتحديد الملكية وتوزيع الأراضى على صغار الفلاحين كان دليلا قاطعا على تغيير شامل يضرب النظام القديم فى جانبه الاقتصادى الأهم ومن ثم تحول الانقلاب إلى ثورة حسب برقية كتبها السفير الأمريكى فى القاهرة دجيفرسون كافرى.

انقلاب يحدث تغييرا يصبح ثورة.

وثورة تحافظ على الواقع تصبح انقلابا.

ودعم ذلك التغيير إسقاط الملكية وإعلان الجمهورية فى 18 يونيو 1953.

إن غياب الرؤية الثورية المبكرة أمام ضباط يوليو جعلهم يكتفون بتنازل الملك عن العرش لولى عهده فؤاد الثانى واعتبر ذلك إنجازا لم يتخيلوه وقبلوا بترحاب وصاية الأمير محمد عبد المنعم من الأسرة المالكة على الملك الرضيع بل أكثر من ذلك ودعوا فاروق وداعا رسميا وكأنه لا يزال ملكا ولم يقطعوا رقبته كما حدث لملك بريطانيا فى ثورة كرومويل ولم يطلقوا الرصاص على أسرته وحاشيته كما حدث لعائلة رومانوف فى روسيا.

لقد خرج فاروق من مصر ملكا يحمل كل ما أراد من متعلقات شخصية متجها إلى منفى سيعيش فيه ملكا أيضا بعد أن وضع فى بنوك أوروبا نحو 40 مليون جنيه إسترلينى تحسبا ليوم كان يتوقعه بالفعل.

كيف عاش ذلك اليوم الذى أجهش فيه بالبكاء؟.