د. رشا سمير تكتب: بهاء طاهر سلامٌ عليك أينما كنت مُبدعنا المتفرد

مقالات الرأي




منذ حمل القلم على ظهره ليُصبح رحالا فى دنيا الأدب بات مهموما بقضايا وطنه..يحزن لحزن من تاه تحت أقدامهم الطريق، ويفرح بسطوع شمس الحق على متاهات الظلم..يأتيه الأمل باسطا جناحيه مع بزوغ كل فجر للتغيير، ويداهمه سكون الليل لو طرق اليأس الأبواب.. لم يحاول الانخراط فى الأوساط الأدبية التى باتت تفوح منها رائحة المصالح والخواطر المشبوهة..ولم يبحث عن أمجاد زائفة ولا أوسمة من ورق.. فارسا امتطى صهوة جواد الإبداع منغمسا فى معارك إنسانية وقدرية وضعته فى قلوب قرائه.

لم يبحث لنفسه عن موقع على السوشيال ميديا، ولم ينشئ حسابا على الانستجرام يشترى متابعيه ببطاقته الائتمانية، بل راح يسبح عكس التيار، حاملا قلمه معولا فى وجه الظلم.

إنه..البهاء الطاهر..روائى مصر العظيم..

بهاء طاهر، خمس وثمانون عاماً من الإبداع، والعطاء الأدبى المتفرد، صاحب مكانة متميزة بين كتاب الرواية والقصة فى العالم العربى، أنجز خلالها ست روايات، وخمس مجموعات قصصية، وكتابين مترجمين، وثلاثة كتب ضمت دراسات ومقالات وقراءات فى الرواية والمسرحية والقصة.. صدرت مجموعته الأولى «الخطوبة» فى عام 1972.

إنه روائى لم يقتف أثر أحد ممن سبقوه ولم يتسلل إلى عباءة أحد، بل ظل طول الوقت حريصاً على أن يكون مستقلا ومختلفا فى إبداعاته ومعبرا عن قناعاته الشخصية.. ظل طوال الوقت متمكنا من تقنيات السرد وحرفية القص منذ أول أعماله وحتى آخرها.

منذ صدور روايته الأولى «شرق النخيل» عام 1983، وحتى صدور آخر روياته «واحة الغروب» 2006 لم يصدر له سوى ست روايات؛ أى بمعدل رواية كل خمس سنوات تقريباً..هنا يستحضرنى بعض الكُتاب ممن يصدر لهم كتاب جديد كل عام، وكأن الرواية جنين مقرر له أن يقضى فى رحم الكاتب سنة بالتمام والكمال، ثم يخرج مشوها!.

بهاء طاهر أيضا كان له نصيب مُستحق مع الجوائز الأدبية، فقد حصل على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب سنة 1998، كما فاز أيضا بجائزة الزياتور الإيطالية عن روايته « الحب فى المنفي» بعد أن ترجمتها الإيطالية «باولا فيفياتي» والتى تُعد من أرفع الجوائز التى تمنحها مدينة كاليار تكريمًا للأديب الإيطالى «فرنشيسكو البزاتور».. وحصل عن جدارة على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عن رائعته «واحة الغروب».

فى عام ٢٠١٣ تبرع بقطعة أرض يمتلكها بالأقصر (مسقط رأسه) للدولة من أجل إقامة قصر ثقافة عليها يخدم المثقفين وقضاياهم، وبالفعل تم إطلاق اسمه عليه ليظل عنوانا لإبداعه.

لم يقدم الروائى بهاء طاهر أعمالا جديدة منذ سنوات، لكنه وبكل ثبات وجدارة مازال موجودا على أرفف كل المكتبات وفى زاوية كل معارض الكتاب، والأهم من هذا وذاك فى وجدان كل قارئ عربى..

فى أوقات أصبحت فيها الأضواء مُسلطة على أنصاف المبدعين ممن يعيشون فى فقاعة هواء اسمها النجاح ظنا منهم أن النجاح هو ملايين المتابعين والمهللين على الإنستجرام، مازال هناك أدب حقيقيا يُقدم، ومازالت هناك أعمال لو مر عليها آلاف الأعوام لاعتلت القمة..

(واحة الغروب/ الحب فى المنفى/ خالتى صفية والدير/ نقطة نور/ ذهبت إلى الشلال/ شرق النخيل/ قالت ضُحى) وغيرها.. تلك الأعمال هى تاريخ أستاذنا بهاء طاهر..

بين إبداعات الحكاء المتفرد بهاء طاهر أصطحبكم اليوم فى رحلة قصيرة..

1- الحب فى المنفى

تلك الرواية التى صدرت عام 1995 ثم أعادت نشرها ضمن مجموعة الأعمال الكاملة دار الشروق للنشر عام 2008 وتقع فى 314 صفحة، تدور أحداثها فى بداية الثمانينيات فى زمن الحرب والانتهاكات الإسرائيلية فى الوطن العربى، صفحات تمثل بكل قوة مأساة جيل أخفق فى تحقيق أحلامه، جيل كامل شعر كلما اقترب من الحقيقة بالاغتراب فى داخل أوطانه.

يستعرض الروائى زمن اجتياح إسرائيل لبيروت ومذابح صابرا وشاتيلا مستعينا بشهادات حقيقية عن هذه المذابح التى طالما غض العالم الغربى البصر عنها، كذلك تعرج الرواية على انتهاك حقوق الإنسان فى شيلى بأمريكا الجنوبية.

الرواية ماهى إلا إسقاط من واقع سنوات قضاها بهاء طاهر فى المنفى أو بالأحرى فى (سويسرا) عقب إلزامه بالغياب عن المشهد نظرا لمواقفه المُعارضة للنظام، وقتها عمل لسنوات فى منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة.

يعيش بطل الرواية حياة مشتتة، ففى البداية انهارت علاقته بزوجته تزامنا مع انتهاء حكم عبدالناصر، عندها يختار أبناؤه العيش مع الأم، تاركين الأب الذى يخسر عائلته وحياته حين تلحقه ضربة موجعة أخرى نتيجة ميوله السياسية الموالية لعبد الناصر، مما يستدعى التخلص منه بعد ثورة التصحيح، فينفى خارج مصر إلى أحد البلدان الأوروبية، والتى يتبين لنا من سياق الأحداث أنها سويسرا، للعمل كمراسل لصحيفته القاهرية..

وفى الغربة يتعرف على بريجيت المرشدة السياحية النمساوية المنفية بإرادتها إلى سويسرا لتهرب هى الأخرى من ماضٍ يحمل كثيرا من الهموم، فتنشأ بين الاثنين علاقة حب فى المنفى..وتتوالى الأحداث.

بكل براعة يمزج بهاء طاهر روايته الخيالية بوقائع شديدة القسوة، توثيق حقيقى لشهادات ومقالات ذكرها الروائى فى صفحته الأخيرة، وأضاف إليها الشهادة الأهم وهى بحسب كلماته «دم الشهداء»..

يأخذنا عمنا بهاء طاهر إلى مناطق شديدة الوعورة، ومشاهد دامية، تمتزج فيها الأقدار بالجنسيات فى حروب ومعارك خاضها العرب جميعا.

ما استوقفنى أيضا ويستحق الإشادة هو عدم تحديد الروائى لاسم الدولة التى تدور فيها الأحداث، إذن هو هنا يجعل من المعنى العنوان والمكان.. فالمنفى هو المنفى، والاغتراب هو الصراع.. والمكان لا يهم تأكيدا على مضمون الفكرة.. إنه مجرد مكان على الكُرة الأرضية..

2خالتى صفية والدير

يرتحل بنا هذه المرة بهاء طاهر إلى حيث جذوره العائلية..صعيد مصر..رواية تقع فى 128 صفحة من إصدار دار الشروق للنشر.

تحولت الرواية إلى عمل مسرحى وتليفزيونى وترجمت إلى لغات مختلفة ونالت عدة جوائز.

تدور أحداث الرواية فى قرية من قرى صعيد مصر يجاورها جبل يحتضن دير..من خلال البطلين الأساسيين الذين تحركت الأحداث كلها ودارت حولهما وهما (صفية) و(حربى)..

إنها قصة محورها التعايش المصرى فى وقت ما، بين مسلمى مصر وأقباطها، قبل أن تشتعل الفتنة الطائفية وتسكن القلوب قبل الدروب..

فى قرية صغيرة تابعة لمدينة الأقصر تبدأ الأحداث، يقع على أطراف تلك القرية دير كبير يعتكف فيه الرهبان، الذين تربطهم بأهل البلدة علاقات يغلفها المودة والاحترام، وعلى رأسهم المقدس بشاى خادم الدير، الذى يحبه ويحترمه أهل القرية من كبيرهم لصغيرهم، وحين يرتبط مصير الراوى بالراهب، تتوالى زيارته للدير، ينفتح دون أن يدرى على ذلك العالم الذى لم يكن يعرف عنه الكثير.

تنضم للأحداث صفية الطفلة الصغيرة التى تتربى فى كنف والد الراوى، لأنها يتيمة، ومن فرط جمالها يمنعها الأب من ذهابها إلى المدرسة حتى لا تجرحها العيون، وإن كثر خطابها تقع هى فى حُب حربى، ولا يبادلها هو نفس المشاعر، إلى أن يطرق حربى باب بيتها يوما طالبا يدها..ولكن لعمه التاجر الثرى!..

تتزوج صفية من عم حربى لتنساه وتتصاعد الأحداث التى تخلق من صفية إنسانة أخرى، مختلفة، إنسانة أبدلتها قسوة الحياة رداء من الانتقام.

السرد فى الرواية موجز وغير ممل كعادة الأديب، فهو إن أراد أن يسترسل لكان باستطاعته أن يملأ عشرات الصفحات، لكنه آثر أن تكون الجمل قصيرة لتحمل كافة المعانى بلا تطويل يدفع القارئ بعيدا.

الشخصيات مرسومة بكل دقة، يرتحل فيها الأديب إلى أعماق النفس البشرية ليوضح كيف أن النفس الطيبة حين يسكنها الشر بدافع الانتقام، قادرة على التحول إلى صورة نقيضية تماما.

إنها رواية تستحق القراءة، من أجمل وأهم ما كتب الحكاء الصعيدى الحالم.

3- نقطة النور

هاهو بهاء طاهر يستدرج قارئه من جديد لعالمه الخاص المتفرد.. بين ثنايا رواية فلسفية مكتوبة بلغة صوفية حالمة، رواية تدعو قارئها للتأمل فى معانى الأشياء، وتجعله طول الوقت هائما بين الصفحات مترقبا لحظة ظهور نقطة النور.

إنه يتحدث فى هذا العمل عن نوعين من الحب، الحب الفطرى الذى يولد به الانسان وحب الشهوة الذى يكتسبه من ماديات الحياة، وحين يتلمس الإنسان طريقه فى الحياة محاولا أن يعرف ماذا يريد وما هو شكل الحب الذى يتمناه، يأتيه فى تلك اللحظة قبس فى شكل نقطة نور ترشده وتهديه إلى مراده..

تبدأ الرواية من السيدة زينب، حيث نلتقى الجد والحفيد، الباشكاتب توفيق وحفيده سالم، ثم تدخل الشابة الجميلة لبنى فى الأحداث، وهى الضلع الثالث فى الرواية..

من ثم تنتقل الرواية بين الأبطال، الذين افتقدوا الحب بشكل أو بآخر فى حياتهم..

تدور الرواية فى دائرة العشق والجنس وتحقيق الرغبات المكبوتة، حتى تنتهى بنقطة النور التى تظهر للباشكاتب وتعيده إلى صوابه..

الرواية تحتوى على جمل فلسفية عميقة عن الحُب والعشق..مثل:

«كان فرق السن بينى وبينها يزيد على خمسة عشر سنة، أتظن أنى شعرت بذلك أو أنها شعرت به ؟ الحب يا ولدى التقاء روحين.. والأرواح لا عمر لها».

«ومن منا لا يحتاج إلى الدعاء وإلى رحمة ربه؟ غير أن الطريق طويل وخُطانا التى نحسبها تمضى بنا على الطريق تقودنا أحيانا إلى عكس الطريق!..سعيد من تهتدى خطاه فلا يضل ولاتحسب أن عملك أو عملى هو المنجى وإنما هى رحمة مولاك».

4مواقفه السياسية والإنسانية

لم يكتف بهاء طاهر بكونه روائى أو قاصا من الطراز الأول، بل كانت له دائما على الأصعدة السياسية والإنسانية مواقف دفع ثمنها من حياته وغربته..لم ينتظر مثل بعض الأدباء رحيل النظام حتى يستطيع أن يقول كلمته، بل قالها فى وجه الأنظمة دون خوف..

مُنع من الكتابة عام 1975 فى عهد الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، مما اضطره لمغادرة البلاد، حيث سافر إلى إفريقيا وآسيا للعمل كمترجم، واستقر به المقام فى سويسرا، عاش فى جنيف بين عامى 1981 و1995، حيث عمل مترجما فى المقر الأوروبى للأمم المتحدة.

فى 3 فبراير 2011 وقبيل أيام من تنحى الرئيس مبارك، أعلن أنه لا يستطيع أن يحتفظ بجائزة مبارك للآداب التى حصل عليها عام 2009، بعدما أراق نظامه دماء الشباب المصريين الشرفاء، معتبرا أن قرار ردها راحة لضميره..يومها كتب يقول:

«أعتقد أن لكل إنسان القدرة على التعبير والتضامن مع شباب مصر الشرفاء ممّن استشهدوا وجرحوا، حتى ولو كان بشيء رمزى وبسيط جدا، مثلما فعلت، نظرا لدماء هؤلاء الشباب الشرفاء».

أما فى ظل حكم الإخوان المسلمين، فقد خرج على الملأ من جديد ليقول كلمته:

«المثقف المصرى أمامه أربع سنوات حالكة السواد فى ظل الدولة الدينية التى يريد الإخوان المسلمون وحلفاؤهم من السلفيين فرضها فى مصر».

يوم وقف على المسرح ليتسلم جائزة الرواية العربية بالقاهرة عام 2015..قال رأيا قاطعا فى الجوائز الأدبية على الرغم من كونه من أكثر قناصى الجوائز..

«لست ممن يعتقدون أن الجوائز تُعطى قيمة كبيرة لفائز، إلا إذا كانت أعماله تُعطيه هذه القيمة».

جملة تحمل ألف معنى، الرجل يدرك تماما حجم المجاملات والتربيطات التى تحكم دنيا الجوائز، والتى بالفعل لا قيمة لها بدون عمل له فى الأساس قيمة حقيقية، فكم من أعمال هزيلة فازت بجوائز لا تستحقها.

5- وختاما..لك ألف سلام

فى زمان أصبحنا نتشبث فيه بالماضى وبكل ما كان له قيمة من فنانين ومبدعين منحونا التفرد والريادة..فى زمان أصبح فيه الجيد عملة نادرة فاضطررنا إلى وصف أنصاف المبدعين بالقامات!..

يقينى دائما أن العمل الجيد يبقى ولا يذوب فى المياه الراكدة سوى الردىء..

لقد توارى بهاء طاهر منذ سنوات عن الساحة الأدبية نظرا لظروفه الصحية، لكنه كان ومازال يمثل نقطة النور الوضاحة فى تاريخ الأدب العربى..

عمنا وأستاذنا صاحب القلم الرشيق..شكرا لك إذ أثريت حياتنا الثقافية بروايات قرأناها الأمس ونقرأها اليوم وستقرؤها غدا أجيال تأتى من بعدنا..

لا أجد خيرا من كلماتك لأختتم بها رسالتى إليك فى عشق قلمك الذى ترك بصمة حقيقية على الأرض وفى قلوبنا..

«لا أفهم معنى للموت، لكن ما دام محتماً فلنفعل شيئاً يبرر حياتنا، فلنترك بصمة على هذه الأرض قبل أن نغادرها»...

سلام عليك بهاؤنا الطاهر أينما كنت.