حسن إسميك يكتب: هل سنشهد نهاية الحقبة الأمريكية؟

مقالات الرأي

بوابة الفجر


أذكر يوم عدنا من الخليج إلى عمّان سنة 1991، نحن وعائلات أردنية كثيرة، على وقع نذير الحرب المقبلة بعد أن احتل صدام حسين الكويت، كانت الأحاديث كلها، في الشارع والمجالس، وعلى ألسن الصغار والكبار، تدور عن هولِ المعركة المقبلة، والأخطار التي تحدق بالجميع، وعن الأسلحة والطائرات والبارجات الحربية، وعن حشد الجيوش العالمية في المنطقة، أما المعنى المختبئ خلف ذلك كله فكان يدور عن أمريكا، وقوتها الصاعدة إلى القمة، وسيطرتها على القرار الدولي، وكثيرا ما كانت الأحاديث تتحول عن السياسة لتتناول طبيعة الحياة الأمريكية، والتقدم الهائل الذي تشهده، والمستوى الحضاري الذي وصلت له.
مثلت أمريكا حينها، وبشكل لا واعٍ، النموذج الأمثل لنا نحن المراهقين، وأظنّ أنه في تلك الأيام بدأ تحول مثال القوة عندي من بروسلي الشهير إلى رامبو البطل الأمريكي الجديد، فكان حلم القوة لدى أبناء جيلي هو أن نكون مثل رامبو، وأن نحظى بآخر ماركات "الجينز" من موطنه الأصلي، وأن نرتدي أحذية نايك التي اشتهر بها مايكل جوردن، ولكن الحصول عليها لم يكن بالأمر اليسير، إذ لم تكن تُباع في الأردن، إنما يجلبها المغتربون معهم كهدايا ثمينة، أو وصايا تصل لأيدينا بأضعاف ثمنها.
لم يكن تواجد أمريكا الكثيف تلك الفترة عسكريا فحسب، بل بدأت أشكال الحياة الأمريكية وثقافة عيشها تظهر تدريجياً في الأسواق والمطاعم ودور السينما والأغاني، حتى فرع "ماكدونالدز" في عمّان الذي قصده في يوم الافتتاح آلاف الراغبين بالتعرف على الهامبرجر الأمريكي الأصلي، لم يستطع تلبية طلبات الجميع، فانتظر عدد كبير منهم دورهم لليوم الثاني للحصول على الوجبة الشهيرة.
ثم دخل العالم الألفية الثالثة وقد أصبحت أمريكا القوة العظمى والوحيدة بلا منازع، والنموذج الأفضل للعيش والعمل والنجاح، والفردوس المفقود الذي يراود مخيلة كل شباب الجيل آنذاك، ثم شاءت الأقدار أن أسافر إليها بعد سنة 2005، وأتعرف على "المعجزة" الأمريكية عن كثب، ليخف الإعجاب المبالغ بها، وتحل محله نظرة موضوعية أحاول من خلالها فهم مصادر الهيمنة وأسباب القوة من خلال النموذج الأميركي الصاعد. وأذكر أنني التقيت بعد سنة 2008 السيد جون سنونو وتناقشنا حول السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ويبدو أنني كنت حديث عهد بدهاليز السياسة الدولية والقوى العالمية، فحكمت على السياسة الأمريكية بالإخفاق، وعلى مشاريعها في الشرق الأوسط بالفشل، كونها لا تحل مشكلة ولا تنهي أمرا، وكأن هذا بسبب عجز منها، لكن السيد سنونو ردّ علي بحزم كمن يريد أن ينبه شخصاً غير منتبه: إذ كان لديك ثمة شك بأن الولايات المتحدة هي الآن صاحبة اليد الطولى في الشرق الأوسط والعالم فأعد قراءة السياسة الدولية وأحداثها وأدواتها من جديد. وفي الحقيقة فقد كان لكلمات السيد سنونو هذه أثرها عندي لأعود فأبحث عن الحقيقة مرة أخرى، لأراها لا كما يراها هو، ولا كما كنت أراها من قبل.
تبدأ الحكاية مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، فقد مثلت لحظة انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات نقطة التحول الأكبر في بنية العلاقات الدولية على المستوى العالمي، وبشكل غير مسبوق أبداً، ليس في التاريخ المعاصر فحسب، بل ربما في عموم التاريخ السياسي ككل. إذ عمل هذا الانهيار على إنهاء منظومة "ثنائية القطبين" في ميزان القوى الدولية، لتنتهي بذلك حقبة الحرب الباردة، وتصبح الولايات المتحدة القوة الأحادية القطب في العالم ككل، ودون أي منازع محتمل. غير أن الانهيار السوفيتي لم يكن السبب الوحيد لتفوق القوة الأمريكية وتصدرها المشهد الدولي، بل لقد أثر في تحقيق ذلك قبول الدول الأوروبية والآسيوية بالهيمنة الأمريكية، والموافقة على الانضواء تحت جناحها، في ظل سقوط الأيديولوجية الشيوعية كمنافس للأيديولوجية الليبرالية، والذي ترافق أيضاً مع تصاعد تأثير الحركات المدنية الغربية العابرة للحدود، والتي عملت على نشر وتعزيز قيم النظام الليبرالي الذي كان يتخذ من واشنطن قبلته المركزية.
استطاعت الولايات المتحدة خلال سنوات قليلة، وفي منتصف التسعينيات تقريباً، أن تفرض هيمنتها الدولية بشراكة حلفائها الأوروبيين الذين مثّلوا جميعاً الخط الثاني في منظومة الدول العظمى، وساعد على تحقيق ذلك التبني المطلق للأيديولوجيا الليبرالية مقابل تقهقر الأيدويولوجيا الشيوعية المضادة، فأصبح هذا التحالف الغربي المرجعية الوحيدة الضامنة لأمن العالم واستقراره.
من جهة ثانية، لعبت حركات ومنظمات المجتمع المدني الدولية دوراً بارزاً في تثبيت دعائم الهيمنة الأحادية القطب، وتكريس بنية النظام العالمي الجديد بقيادة واشنطن، وذلك من خلال قيام هذه المنظمات بنشر القيم والمعايير والممارسات الليبرالية، كما عملت على توجيه الدول النامية، وتلك التي ظهرت على أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي نحو النموذج الديمقراطي الغربي، والدفع نحو إجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وتعميم النموذج الغربي الضامن للحريات والملكيات وحقوق الإنسان.
غير أن الزهو بانتصار النموذج الغربي، وبتسيّد الهيمنة الأمريكية على المشهد السياسي الدولي، والركون إلى أن الليبرالية قد حققت انتصارها الدائم والأبدي (أطروحة نهاية التاريخ، ونظرية صدام الحضارات)، جعل الولايات المتحدة تغفل عن عودة القوى الدولة المنافسة لها، والتي استطاعت أن تترأس تحالفاً مضاداً أصبح اليوم واضح المعالم وقادراً على استعادة قوة التأثير في السياسة العالمية، بزعامة مشتركة من الصين وروسيا، وبدعم دول إقليمية حول العالم وصولاً إلى قلب أوروبا ذاتها.
وربما غاب عن صناع السياسة الليبرالية وقادتها أن منافسيها، رغم اختلافهم أو سوء العلاقات التي بينهم، قادرين على القيام بما يلزم لتوحيد جبهة ضدها، مثال ذلك قيام موسكو وبكين بتحييد خلافاتهم جانباً، والالتفات إلى وحدة الهدف الذي قد لا يتمثل في تسيد العالم بالدرجة الأولى والهيمنة الحصرية عليه، بل على الأقل في إنهاء مرحلة القطب الواحد والعودة لتعدد الأقطاب، وهذا ما فعلته الدولتان الشرقيتان القويتان، فعلى صعيد السياسة الدولية مثلا، لم تعد تخفى المشاورات الروسية الصينية الدائمة حول التصويت والمبادرات في أروقة الأمم المتحدة، أو التنسيق في مجلس الأمن (التابع أيضاً للأمم المتحدة) ضد التدخلات الأمريكية السياسية والعسكرية، كما حدث في المشاريع المتعلقة بكل من إيران وسورية وليبيا، مع انتقاد حاد لهذه التدخلات ولسياسة القطب الواحد وتأثيرها "السلبي" في العالم.
واليوم.. وفي ظل التغيرات السياسية والاقتصادية الكبرى التي يشهدها العالم نتيجة أزمة كوفيد 19، والاستجابة غير المنظمة للأزمة الاقتصادية المترتبة على تفشي الجائحة، وما رافقها من عودة للسياسات القومية وإغلاق الحدود بين الدول، وانكشاف مدى هشاشة النظام الدولي الحالي، فإن أمريكا مهددة بخسارة دورها الريادي في العالم إذا لم تجدد إدارتها الحالية التزامها بتعزيز النظام الدولي الليبرالي. ويتطلب تحقيق هذا الالتزام عدم الاكتفاء بالتفوق العسكري الذي ساهم في تكريس الهيمنة الأمريكية في السابق، إذ أصبحت الخيارات العسكرية ضيقة جداً وغير فعّالة نتيجة الوضع الدولي الحالي الذي تحكمه ظروف الجائحة، والذي لن يكون قصيرا بحسب توقعات خبراء الصحة وتحليلاتهم.
ولأن الأسباب التي أدت إلى نجاح الولايات المتحدة في تدويل همينتها سابقاً ما عادت تصلح اليوم في الحفاظ على هذه الهيمنة أو استعادة ما خرج عنها، فإن واشنطن تواجه اليوم تحدٍ أكبر من السابق؛ من حيث تجديد التزامها بدورها العالمي، وتغيير أدواتها بما يتناسب مع المنافسة الإستراتيجية الصينية الروسية. ويبدو لي أنه لن يكون باستطاعة أمريكا مواجهة الصعود الروسي الصيني المتسارع إلا في حال التخلي عن سياسة الإنكفاء على الذات (أمريكا أولاً) التي قادها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال ولايته الأولى التي شارفت على الانتهاء، والتحول في برنامجه الجديد نحو تدعيم السيادة الأمريكية وقيادتها للنظام العالمي، وإدارة الصراع على النفوذ مع القوى المعارضة للنظام الديمقراطي الغربي.
أخيرا يمكنني القول أنه رغم فقدان بعض أهم خيوط الهيمنة الأمريكية، فإن تحالفاتها في المنطقة ما زالت عميقة وفعّالة، وما زال تفضيل التعامل معها على غيرها هو الخيار الأقرب لأغلب الفواعل السياسية والاقتصادية، وهذا ما يرمي الكرة في ملعب واشنطن وإدارة البيت الأبيض المقبلة، لتقوم، وبدعم الحلفاء الأوروبيين، بتجديد دورها السياسي الأوسطي، محمّلاً هذه المرة بالالتزامات التي تترتب عليها كقوة عظمى، وبإعادة تفعيل القيم الليبرالية، خاصة في جوانبها الإنسانية والاقتصادية، تزامناً مع خطورة ما يشهده الشرق الأوسط من نزاعات واضطرابات لن تبقى ارتداداتها حبيسة حدود المنطقة ، فلقد كان هذا الشرق وما زال محوراً للصراع في العالم؛ فهو منشأ الحضارات ومهبط الرسالات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام.

نقلاً عن إيلاف