الكاتب الوحيد الذى تجرأ على كوكب الشرق

العدد الأسبوعي

بوابة الفجر



زكى مبارك كان من عشاق ثومة ولكنه نجا من الوقوع تحت تأثيرها

وصفها بأنها رجل وأطلق عليها لقب أبو كلثوم


كان لأم كلثوم تأثير خرافى يتعدى صوتها وقصائدها وذكاءها، تأثير تمارسه بوعى حينا وربما بموهبة أخرى حينا، تأثير قوة شخصيتها الطاغية ممتد المفعول ومتحدى الزمن والسياسة والموت، كل من وقع تحت تأثيرها حافظ على الصورة التى رسمتها ثومة لنفسها، كل من اقتربوا منها أو حتى وقعوا فى عشق صوتها تعاملوا مع سيرتها وأسرارها كعقد من الفل أو عصفورة من الكريستال، فكلهم خافوا أن يخدشوا الكريستال أو يشوهوا عقد الفل، ولذلك ظلت أسرارها محفوظة فى بئر عميقة وسحيقة حتى بعد وفاتها بسنوات طويلة، فبعد أن انتهت مأساة ثومة مع الصحافة فى بداية تألقها والحرب التى شنتها السلطانة منيرة المهدية، بعد أن تخطت ثومة هذه المحنة، وجدت كل الترحيب والتقدير من الصحافة والكتاب، الكل كان معجبًا ويتمنى القرب، وما أن يتقرب حتى تختفى إرادته وتبدأ ثومة فى رسم العلاقة بينهما كما تشاء، كل من قابلها عاد يكتب شعرا بعدما سكر حتى الثمالة فى الإعجاب بها وتقديرها، لكن كاتبا واحدًا وحيدا لم يقع تحت هذا التأثير رغم عشقه لها، إنه كاتب لم تخلد الصحافة المصرية اسمه لأن مثله لا يلقى الإعجاب، كاتب صادق وجرىء ويعبر عما يؤمن به أو يحسه بدون أى حسابات، وبعيدًا عن كل أنواع الحسابات بما فى ذلك حسابات العاطفة.

1- المعجب الجرىء

اسمه زكى مبارك، ولكنه لا يمت بصلة قرابة إلى العلامة والمثقف المصرى الدكتور على مبارك باشا، وعلى مبارك هو أحد أعمدة التنوير فى عهد الخديو إسماعيل، ومثل الكثيرين من الكتاب حاول زكى مبارك أن يلتقى بالست أم كلثوم، ونجح فى تحقيق هدفه، التقيا على مائدة غداء، فأصر أن يدفع نصيبه من ثمن الغداء، فلم تعترض أم كلثوم وذلك على الرغم أنها كانت الداعية، وقد سجل زكى هذه الواقعة ودلالتها واللقاء فى مقال أو بالأحرى دراسة قصيرة فى مجلة الرسالة وبأسلوب ساخر وبديع تحت عنوان (4500ثانية مع أم كلثوم)، فقد قضى زكى مبارك 75 دقيقة مع ثومة، ولكن اللقاء مع كوكب الشرق يحسب بالثوانى، وهذا العنوان يشير إلى إعجابه بها وفنها، ولكنه يكتب بوضوح وصراحة تامة عن بخلها، وهو يرى أن كل الموهوبين والعظماء بخلاء، لأنهم يعرفون أن الفقر يعنى البؤس، وحياة البؤس لا تنافس المبدع، فأم كلثوم بخيلة وعبد الوهاب بخيل، يروى مبارك قصة عن بخل عبد الوهاب، فقد علم أن أحد الأصدقاء المشتركين مع عبد الوهاب نصح المطرب الكبير بطريقة مرهقة للسفر من الشام للقدس، وعندما عاتب زكى مبارك الصديق على هذه النصيحة المؤلمة، فوجئ مبارك بالصديق يخبره أن عبد الوهاب اختار الطريق لأنه يخفض نفقات السفر عدة جنيهات، ولكى يؤكد زكى مبارك بخل أم كلثوم يروى أنها ضحكت عندما فكرها بالجاحظ، والجاحظ لم لا يعرف كاتب عربى ساخر سجل سلوك وسير وطرائف أشهر البخلاء العرب، فى كتاب بديع يحمل اسم البخلاء، ويستشهد أيضا بالمفكر الكبير الدكتور طه حسين فى ربط البخل بالعبقرية، فيؤكد الكاتب أن عرف طه حسين عشر سنوات دون أن يتناول الطعام فى بيته.

2- أبو كلثوم

بعد وصلة من الإشادة والاعجاب بفن أم كلثوم يقرر الكاتب زكى مبارك الفصل بين شخص أم كلثوم وفنها، ويرى أن شخصية أم كلثوم تميل إلى سيدة أعمال أو ربما رجل أعمال مثلها مثل عبد الوهاب، فهى فى وسط ومناخ صعب ولذلك خلعت برقع الحياء وهى تحاور وتعامل الرجال، وتعلمت أم كلثوم أن تكون بادرة جدا مع الآخرين ولكن عندما تكون ثومة بمفردها تنفجر مشاعرها كبركان.

ويرفض زكى مبارك تصديق انشغال ثومة بالأدب والثقافة، فيكتب بمنتهى الصراحة: (لاتصدقوا أن وقت ثومة يضيع فى مراجعة الأدب القديم والأدب الحديث، كما تسمعون، وإنما يضيع وقت ثومة فى تدبير المال لاقتناء النفائس من البيوت والبساتين).

وفى دراسته الفريدة يكشف زكى مبارك عن جوانب من حياة ثومة تعمد الكثيرون تجاهلها، فهو يراها ابن بلد وليست بنت بلد، ويرى أنها تظهر سلوكا عنيفا جافا، وقليلة الثقة بالآخرين، وأنها خشنة وليست ناعمة حتى لا يستهين بها أحد، وأنها ترد الصاع صاعين، ولكنه يؤكد أن وراء أو خلف كل ذلك قلب يحترق، وعندما ذكرها زكى مبارك فى لقائهما بالقطار عن قلبها المحترق لانت وتبخرت خشونتها، وكان ثانى لقاء بين الكاتب الساخر زكى مبارك وثومة فى القطار هو كان ذاهبا إلى الإسكندرية وهى كانت متجهة إلى المنصورة.

وعلى الرغم من أن مجلة الرسالة لها وزنها وسمعتها فى ذلك الوقت إلا أن الكاتب زكى مبارك لم يحظ بشهرة كبيرة، ولكنه أفاد تاريخ الفن بدراستة الجريئة عن ثومة، فلولا جرأة الكاتب لما عرفنا عن ثومة هذه الجوانب، المثير أن زكى مبارك لم يكتف فى الدراسة بفضح بخل أم كلثوم وحبها للمال فقط، ولكن لكى يؤكد فكرته عن العلاقة بين العبقرية والبخل وحب المال يذكر لنا موقفًا عن أمير الشعراء أحمد شوقى، ويحكى أنه زار مع شوقى ممتلكات أمير الشعراء، ويصف بأسلوب ساخر نظرة الإعجاب والعشق فى عين أمير الشعراء لأملاكه، ويؤكد الكاتب الساخر أن أحمد شوقى لم يمت إلا كمدا وحزنا على فراقه لأملاكه.

ولا أنكر أننى أعجبت بمنطق هذا الكاتب فى قضية حب العظماء والموهوبين للمال وحرصهم على جمع أكبر قدر منه، فهو يرى أن الله لم يعط الموهبة للمتخاذلين أو المتهاونين، وأن حب المال من شيمة الموهوبين والعظماء والبخل صفة لصيقة بهم، فقد مر فى حياتى الكثير من العظماء المعجونين بخلا، كنت أنا وأصدقائى نفسر هذه الظاهرة بأنهم تعبوا خلال رحلة جمعهم للمال، أو أنهم يخافون تغير الزمن وتقلب الأحوال والحظ.

وبعيدا عن البخل فإن دراسة زكى مبارك قد فتحت الباب للبعض لتشويه صورة أم كلثوم، فدون أن يدرى أو يرغب زكى مبارك ستستخدم أو صافه عن ثومة مثل أبو كلثوم وابن بلد ورجل أعمال لأخطر وأحقر تهمة وجهت لأم كلثوم.

الأسبوع المقبل لماذا اتهمت أم كلثوم بالشذوذ؟