عادل حمودة يكتب: «مسلسل الاختيار» لا يزال ينعش الذاكرة

الفجر الفني



شاهدت الساعات الأخيرة فى حياة النائب العام هشام بركات

المستشفى لم يتح لفريق الأطباء العسكريين رؤية الحالة إلا قبل الوفاة بدقائق مدير المستشفى الدكتور عصام عمار أكد أن النزيف توقف والحالة مستقرة وبعد 45 دقيقة حدث الانهيار

بركات كان قاضيا محايدا أمر بنقل مهدى عاكف من السجن إلى مستشفى خاص وأفرج عن تاجر مخدرات تجاوز الحبس الاحتياطي

كان يدخن 80 سيجارة في اليوم ويفرم خطابات التوصية من رجال القضاء لاختيار أبنائهم في النيابة العامة

لم يتوقف مسلسل الاختيار أكثر من ثوان أمام حادث اغتيال النائب العام المستشار هشام بركات في 29 يونيو 2015.

لكن هذه الثوانى كانت تكفى لتخرج ملف الحادث من أرشيف الذاكرة بتفاصيله الدقيقة المثيرة رغم مرور نحو خمس سنوات عليه.

تابعت كل ما جرى فى ساعاته الأخيرة جالسا فى حجرة قريبة من غرفة عمليات مستشفى النزهة التى اتجه إليها بنصيحة من سائقه عباس رفعت لقربها من مكان الحادث بينما «المركز الطبى» الذى فكر فيه يبعد 45 كيلومترا.

كان المستشفى ممتلئا برجال من النيابة العامة يقرأون القرآن فى سرهم وتجرى حبات السبح بين أصابعهم لعلها تأتى بالفرج.

فى منتصف النهار وصل فريق من أطباء القوات المسلحة برتبة لواء على رأسهم مدير الخدمات الطبية اللواء مصطفى أبو حطب وبجانبه جراج القلب والصدر الدكتور يوسف عبد المسيح وجراح المخ والأعصاب عزت عبد الخالق وانضم إليهم مديرا مستشفى الجلاء ومستشفى القوات الجوية ولكنهم لم يجدوا مكانا لهم فى الحجرة التى نجلس فيها إلا بعد أن تدخل وزير العدل فى ذلك الوقت المستشار أحمد الزند.

مر وقت طويل ــ بمقاييس تلك الحالات الحرجة التى تقاس بالثوانى ــ دون أن يطلب مستشفى النزهة من الأطباء العسكريين مشورة أو يسألهم نصيحة أو يعرض عليهم الحالة ما أثار دهشتنا.

انضم إلينا فى الغرفة نفسها اللواء أحمد جمال المستشار الأمنى للرئيس ليلحق به وزير الداخلية وقتها اللواء مجدى عبد الغفار الذى غادر المستشفى بعد ثلث الساعة ليتفقد مكان الحادث.

وجاء وزير الأوقاف الدكتور مختار جمعة ليصف النائب العام بـ«الطود الشامخ» مؤكدا أن العزاء لن يكون إلا بـ«القصاص العادل».

وانضم إليه وزراء الاستثمار (أشرف سالمان) والعدالة الانتقالية (إبراهيم الهنيدى) والصحة (الدكتور عادل العدوى) والنقل (هانى ضاحى) ولحق بهم رئيس الحكومة (إبراهيم محلب) الذى جاء من توشكى مباشرة.

فى الساعة الثانية دخل علينا مدير المستشفى الدكتور عصام عمار بالبالطو الأبيض قائلا:

«إنه يتابع ما يجرى فى غرفة العمليات من مكتبه عبر جهاز مونيتور».

وأضاف: وأستطيع القول إن النائب العام لم يصب بشظايا وكل ما تعرض إليه تهتك فى الكبد انتهى بنزيف ثلاثى وتهتك فى الجانب الأيمن من الحجاب الحاجز تسبب فى نزيف رابع وتهتك فى الأمعاء الدقيقة تسبب فى نزيف خامس ونقل إليه فى البداية نحو 6 لترات من الدم.

واستطرد: ونجحنا فى إيقاف النزيف وسيطرنا على الحالة حتى أصبحت مستقرة.

وهدأت الأنفاس المتوترة واسترخت الأعصاب المشدودة ورحنا جميعا دون شعور بالحرج نثرثر فى موضوعات أخرى مثل تأمين الشخصيات العامة والحوادث المتوقعة فى الذكرى الثانية لثورة 30 يونيو مثلا.

ولكن بعد عشرين دقيقة بالضبط وجدنا طبيبا من المستشفى يدخل علينا ليسأل فريق الأطباء العسكريين عن إمكانية الحصول على مزيد من أكياس الدم فجاء الرد عليه من أحدهم: ما قلنا لكم هاتوا فصيلة الدم وأنتم لم تردوا علينا واختفيتم فتراجع طبيب المستشفى قائلا: الحمد لله لسه عندنا عشرة لترات احتياطية واختفى وسط دهشة الجميع.

أمام حالة الارتباك التى بدت واضحة قرر الأطباء العسكريون دخول غرفة العمليات ليقيموا الحالة على الطبيعة أو على الأقل يتابعونها عبر المونيتور فى غرفة مدير المستشفى.

لكن قبل أن يتحركوا دخل علينا شخص فارع الطول يرتدى بدلة سوداء ليوجه حديثه إليهم قائلا: الحالة استقرت والحمد لله ولن يكون هناك جديد طوال أربعة وعشرين ساعة قادمة بعدها يمكن نقلها إلى المستشفى الذى تفضلون.

تدخل الدكتور عزت عبد الخالق قائلا: نحن هنا فى مهمة محددة أن نطمئن بأنفسنا ولن نغادر إلا إذا تأكدنا أن لا أحد فى حاجة إلينا نحن لم نأت للمجاملة.

قال الرجل: أردت أن أريحكم.

وما أن خرج حتى بدأ حوار بين الأطباء العسكريين حول أفضل مستشفى ينقل إليه النائب العام بعد 24 أو 48 ساعة.

إلى هذا الحد كنا مطمئنين إلى أن النائب العام نجا من الموت ولكن ما جرى بعد قليل بدد ذلك الاطمئنان.

فى الساعة الثالثة إلا الربع أصر الأطباء العسكريون على أن يروا الحالة بأنفسهم قبل أن يغادروا المستشفى وما أن دخلوا غرفة العمليات حتى اكتشفوا أن وصف إدارة المستشفى للحالة لم يكن دقيقا وجدوا كسرا فى عظمة الأنف وكسرا فى عظام الصدر وكدمة فى الرئة وكدمة فى القلب واحتمال نزيف فى تجويف الجمجمة.

توصيف سمعوه بعد فوات الأوان.. قبل ربع ساعة فقط من صعود روح النائب العام إلى بارئها.

كان بجانبهم المستشار أحمد الزند الذى خرج من غرفة العمليات وهو يبكى.

وما زاد من صعوبة الحالة أن المستشار هشام بركات كان يدخن أكثر من ثمانين سيجارة فى اليوم ما أدى إلى متاعب فى عضلة القلب وانسداد فى شرايين مؤثرة وكان مقررا أن يجرى قسطرة فى القلب بعد أسبوع واحد.

فى الساعة الثالثة همس وزير يقف بجوارى: البقية فى حياتكم.

وخرجت من المستشفى صامتا مكتئبا عاجزا عن الرد على أسئلة زملائى المراسلين الذين وقفوا ينتظرون كلمة تطمئنهم ولكنى لم أستطع النطق بها.

كان المستشار هشام بركات مثالا للقاضى المحايد الذى ينفذ القانون ولو لم يعجبه.. يكفى أنه أمر بنقل مهدى عاكف (المرشد الأسبق للإخوان) إلى مستشفى خاص خارج السجن.. كما أنه أفرج عن تاجر مخدرات عندما وجد تعسفا فى حبسه احتياطيا.

وشهدته بنفسى وهو يفرم خطابات توصية كتبها رجال قضاء لقبول أبنائهم فى النيابة العامة بعد أن استقبلهم فى مكتبه.

وحسب ما عرفت منه فإنه كان يتابع بنفسه قضايا الفساد التى فجرتها منذ سنوات وسنوات ومنحنى ذلك تقديرا خاصا منه بأن نشرب معا القهوة الفرنسية التى يفضلها مع السماح بالتدخين.

وكان مهتما بإثبات أن العدالة فى مصر راسخة منذ قرون سحيقة فطلب وضع ثمثال كبير لماعت إلهة العدالة عند الفراعنة فى مدخل مبنى النيابة العامة فى القاهرة الجديدة وخلف التمثال لوحة المحاكمة فى العالم الآخر.

واتفق مع وزارة الثقافة على وضع لوحات الفنانين التشكيليين المتميزين على جدران طرقات المبنى وفى مكان مميز وضع صور النواب العموميين الذين سبقوه وبالاتفاق مع المركز القومى للسينما أشرف على فيلم عن تاريخ النيابة العامة.

وفى الوقت نفسه حرص على تزويد المبنى الجديد بشبكات إنترنت متطورة وسريعة لتربط النيابات ببعضها مما يسهل نقل ملفات القضايا وحفظها وسهولة التصرف فيها.

وربما لا يصدق أحد أن المستشار هشام بركات وقت الحادث كان يسكن الشقة التى تزوج فيها ولا تزيد عن غرفتين وصالة ولم يمتلك بيتا صيفيا والترف الوحيد فى حياته كانت سيجارة ميريت علبتها زرقاء.

يوم الحادث خرج الرجل من بيته (8 شارع ابن رشد) فى التاسعة صباحا إلى شارع عمار بن ياسر ليسلك طريق المطار متجها إلى مكتبه فى القاهرة الجديدة.. عند المنحنى.. أو النقطة الحاكمة التى تجبر السيارات على التهدئة حدث الانفجار.

تسبب الانفجار فى خلخلة الهواء فرفع ضغط الدم فى جسم النائب العام مسببا تهتكا فى أكثر من جهاز من أجهزه الجسم وأهمها الكبد.

ولتعويض النزيف يجرى نقل الدم بكميات معينة لا تزيد عادة عن ثلاثة ليترات حتى لا تبذل عضلة القلب مجهودا كبيرا ولكن فى هذه الحالة ضوعفت الكمية مما ضاعف المجهود على عضلة القلب فكان ما كان.

نشرت ذلك التفسير الطبى منسوبا لمتخصصين يشهد لهم الجميع ولكن فوجئت بطبيب لم أسمع عنه من قبل يخرج على السوشيال ميديا ليهاجمنى بشدة مدافعا عن المستشفى مستخدما لغة لا تليق برجل فى مهنته ودون أن يسأل نفسه عن نتيجة ما فعل المستشفى؟.