عواصم مصر.. "إنب حدج" أول عاصمة في التاريخ

أخبار مصر

الدكتور حسين عبدالبصير
الدكتور حسين عبدالبصير


مصر هي حضارة من أقدم حضارات العالم، وعرفت الحياة المنظمة اجتماعيًا وسياسيًا مبكرًا للغاية، منذ ما يقرب من 6000 عام، وقد يزيد، ولا زالت الاكتشافات تظهر لنا المبهر فيما يتعلق بالحياة التنظيمية في مصر، وتعتبر العاصمة علامة اكتمال ونمو النظام السياسي، وعبر سلسلة من الموضوعات يحدثنا الدكتور حسين عبدالبصير، مدير عام متحف آثار مكتبة الإسكندرية، عن عواصم مصر عبر العصور. 

قال "عبدالبصير" في تصريحات خاصر إلى الفجر، إن مصر القديمة عرفت العمران منذ أقدم العصور، وكانت مدينة "إنب حدج" أو "الجدار الأبيض" هي أول عواصم مصر القديمة الموحدة في بداية عصر الأسرات وبداية التاريخ في مصر في أواخر الألف الرابعة قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام. 

وأوضح  مدير عام متحف آثار مكتبة الإسكندرية، أن وحدة مصر حدثت بالتدريج من الجنوب إلى الشمال؛ إذ تم توحيد أجزاء مصر حضاريًا ثم سياسيًا تحت راية المعبود الأزلي حورس الذي قُدس في مدينة الكاب "قرب مدينة إدفو محافظة أسوان الحالية" ولعب التجار الجنوبيون دورًا كبيرًا في نقل ثقافتهم ونشرها في الشمال. 

ولفت إلى أن الصعيد اتحد تحت حكم واحد ولواء واحد وراية واحدة بعد سلسلة من الحروب وبفضل عدد من التحالفات السلمية، اتحد الشمال والجنوب سياسيًا معًا إلى أن أعلن ملك مصر العليا والسفلى، الملك المؤسس مينا أخيرًا الوحدة السياسية والأبدية للبلاد المصرية.

"مينا" يؤسس عاصمة البلاد
وأضاف عبدالبصير، أن الملك الموحد "حور عحا" أي "حورس المحارب"، أو "الصقر المحارب" الذي يُظهر اسمه طبيعة الفترة التي عاش فيها، والذي حمل لقب "مِنِيِ" بمعني "المُثَبِّت" أو"المُدِّعم" لأركان وحدة مصر الجديدة، والذي يعرف في زمننا الحالي باللفظ الشائع "مينا"؛ أسس مدينة جديدة كي تكون عاصمة للبلاد وهي "إنب حدج". 

وأشار إلى أن المصريين في كل العصور التالية نظروا إلى الملك بعين الإجلال والإكبار؛ فهو أول ملوك مصر الموحدة، والوحيد الذي نجح في ذلك بعد محاولات عديدة من قبل ملوك كثيرين، كما نجح في القضاء على الصراع السياسي والتناوش العسكري اللذين استمرا فترة طويلة من الزمن قبل عهده المجيد. 

وأضاف عبد البصير، "يقول أبو التاريخ هيرودوت إن كهنة العاصمة حدثوه بأن مينا كان أول من حكم مصر من البشر وبنى ذلك الملك "القلعة البيضاء" أو "الدار البيضاء" "إنب حدج"، عند رأس الدلتا لتكون عاصمة للمملكة المتحدة وأوجد جسرًا لحماية العاصمة؛ إذ كان النهر كله يجرى بحذاء الهضبة الرملية من جانب الصحراء وجفف المجرى القديم وحول مجرى النهر لينساب بين الهضبتين. 

وتقع هذه العاصمة الجديدة على البر الغربي للنيل وتبعد حوالي أربعة وعشرين كيلو مترًا إلى الجنوب من عاصمة مصر الحالية، القاهرة، وموقعها استراتيجيًا بين النيل والدلتا، وفيه يلتقي الصعيد بالدلتا، وكذلك طرق التجارة. 

وتابع، يشير الدليل الأثري إلى أن موقع العاصمة المختارة كان موجودًا منذ عصر ما قبل الأسرات، وكان من أبرز ملامح هذه العاصمة المباني الإدارية مثل المبنى الأبيض الذي احتوى على المقر الملكي ومكاتب الحكومة، ومثلت هذه المدينة مركز الوحدة وميزان الأرضين، أرض مصر السفلى وأرض مصر العليا، واختار الملك بذكاء ذلك المكان المتوسط، والذي سوف يكون أغلب الوقت المكان الأبدي الذي سوف تُحكم منه مصر، باستثناء مدينة الإسكندرية التي اتخذها البطالمة والرومان من بعدهم كعاصمة لمصر حتى تكون قريبة من بلادهم الأصلية.

فترة حكم الملك نعرمر
وأشار عبدالبصير إلى أن فترة حكم والد حور عحا، وهو الملك "نعرمر" (أو نارمر آخر ملوك عصر الأسرة صفر)، شهدت صراعات سياسية وعسكرية عبر الأرض المصرية كلها، وقد تم توحيد الأرض المصرية حضاريًا ودينيًا تحت راية المعبود حورس الذي حارب تحت رايته أتباعه إلى أن تم استكمال الوحدة السياسية من الجنوب إلى الشمال على مراحل وصلت نهايتها إلى أعماق الدلتا المصرية، كما أشرنا من قبل.

والملك حور عحا أو مينا أنشأ الدولة المركزية حوالي عام 3200 ق.م، وكانت القوة العسكرية في عهده تقوم على توحيد أرض مصر تحت قوة واحدة وتحت راية واحدة والدفاع عن الحدود المصرية ضد أي عدوان خارجي، مع بسط نفوذ مصر في الجنوب في بلاد النوبة وفى الشمال الشرقي في بلاد الشام.

وتابع عبد البصير، يشير نقش على بطاقة مصنوعة من العاج من منطقة أبيدوس بسوهاج إلى حملة عسكرية قام بها حور عحا ضد بلاد النوبة، وتمت تسمية هذا العام بـ "عام السيطرة على إقليم تا-ستي (أي بلاد النوبة)".

وتوضح بقايا آنية من منطقة عين باصور في جنوب فلسطين أن هذه المنطقة كانت مركزًا نشيطًا في فترة حكم هذا الملك، وأنه كانت هناك مراكز عسكرية وإدارية مصرية في هذا الجزء لحماية وتأمين طرق التجارة المصرية.

وختم عبدالبصير قائلًا: قاتل حور عحا، لأجل نشأة أمة وتأسيس دولة، وأسس إنب حدج لتكون واحدة من أبرز ثمراته وإنجازاته والتي سوف تكون في أغلب الأوقات مقر وعاصمة وحكم مصر الأبدي بسبب توسط موقعها الجغرافي المميز؛ مما يؤكد على حسن اختياره كي يكون أول عاصمة لمصر الموحدة.