د. رشا سمير تكتب: رواية مالك فى «أرنى أنظر إليك»

مقالات الرأي




﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِى وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.. تلك الآيات تتجلى بعظمة الله وتُعبر عن اليقين بوجوده عز وجل، وما بين هذا اليقين وبين الطريق المظلم الذى يأخذ البعض للشك، تقبع آلاف الأسئلة.

هكذا تروى لنا الآية 143 من سورة الأعراف، قصة سيدنا موسى عليه السلام وهو فى موعد مع ربه فى الوقت المحدد له بعد تمام الأربعين ليلة، حيث أراه الله الملائكة قياما فى الْهواء ورأى العرش بارزا ثم كلمه الله وناجاه حتى أسمعه، فاستحلى موسى عليه السلام كلام ربه واشتاق إلى رؤيته، فقال متوسلا: ﴿ رَبِّ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْكَ)، فأجابه سبحانه بأنه لن يقدر على رؤيته فى الدنيا، ولكن طلب منه أن ينظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه إذا تجلى له فسوف يراه موسى، فلما تجلَّى ربه للجبل جعله دكا مستويا بالأرض، وسقط موسى مغشيًّا عليه.

تلك هى قصة موسى عليه السلام وما أعظم المعنى والعظة منها، نحن لا نرى الله ولكن تتجلى لنا آياته العظيمة لنتيقن أنه هناك يراقبنا ويحاسبنا ويدعونا للتضرع إليه ليُجيب النداء، واليوم نحن على أعتاب الإبحار بين صفحات رواية عنوانها مستوحى من تلك الآية الكريمة..

قراءة لرواية «أرنى أنظر إليك» للروائية التونسية د.خولة حمدى، والتى تقع أحداثها فى 428 صفحة من إصدار دار كيان للنشر والتوزيع التى استطاعت فى السنوات الأخيرة أن تصنع لنفسها مكانا صلبا على ساحة النشر فى مصر من خلال إدارة عقليات شبابية هُما محمد جميل صبرى ونيفين التهامى.

1- الأستاذة الجامعية الروائية:

د.خولة حمدى أستاذة جامعية فى تقنية المعلومات بجامعة الملك سعود بالرياض، ولدت بتونس العاصمة وهى فى العقد الرابع من عمرها، حصلت على الدكتوراه فى بحوث العمليات من جامعة التكنولوجيا بمدينة تروا بفرنسا كما هو مدون عنها فى سيرتها الذاتية..

استطاعت خولة من أول رواية لها أن ترسخ علاقة مُميزة بينها وبين القارئ العربى.

أول معرفتى بها كان من خلال روايتها الأولى «فى قلبى أنثى عبرية» الصادرة عام 2012، والتى حققت نجاحا كبيرا وجذبنى أسلوبها الساحر ومحتوى الرواية المختلف، ثم توالت الإصدارات..فإذا بها تُمتعنا بمجموعة من الروايات المتميزة والمحتوى مثل «غربة الياسمين» و«أن تبقى» و«أين المفر» وأخيرا الرواية التى نحن بصدد الإبحار معها اليوم وهى «أرنى أنظر إليك».

2- مالك ورحلة اليقين:

تبدأ الرواية بخطاب تاريخه 14 نوفمبر 2010 صادر من الرياض، رسالة من راوٍ عليم وهو الصوت الذى يحكى لنا من البداية قصة بطل الرواية، التى يبدو من كلماته أن مالك حكاها له وخشى أن يكتبها بنفسه خوفا من أن تُشير هويته إلى أهله فى تونس فينكلون بهم،

يعود بنا الراوى من خلال عناوين الفصول إلى عام 2004 ولقطة صعود مالك إلى الطائرة التى سوف تُقله إلى مطار شارل دى جول بباريس.

ولد مالك الشاب التونسى فى أسرة متدينة جداً، حيث تعلم أصول الدين، مثله مثل الكثيرين من أبناء تونس الذين شبوا على الفكر الإسلامى والعقيدة، شاب كان يرى نفسه طوال الوقت تجسيدا حيا لـ«حى بن يقظان» فى العصر الحديث، يقينه أنه لا تعارض بين الفلسفة والدين، ولا بين العقل والشريعة..كان يزعم أن رؤية العالم تتكامل فى صورة مثالية.

يدخل مالك كلية الطب وينتهى به الأمر بالدخول فى براثن الحركات الإسلامية حتى يتم الزج به فى المعتقل أكثر من مرة.

فى لحظة يقرر مالك الهروب من بلاده إلى أوطان أخرى ربما تترفق به، وحتى يتخلص من إحساس الظُلم والقهر الذى بات يطارده فى وطنه وبين أهله.

3- يقول مالك مُعبرا عن حاله:

«كنت أعود إلى زنزانتي- بعد ساعات التحقيق المرعبة- يقودنى جلاد فظ، يطاردنى بالسّياط والسّباب، وفى الزنزانة التى تشبه القبر، أتكئ بظهرى إلى جدارها الحجرى، واهن الجسد، معذّب الروح منهك الحواسّ من شدّة الضّرب والتعذيب، أضع رأسى بين ركبتى، أختبئ من نفسى ومن العيون التى ترقبنى، أتمنى ألا يرى ضعفى أحد من رفقاء المحنة. لكنّ عجزى مفضوح رغم العتمة، الخور يتسلّل حتى يسيطر على ذاتى المحطّم، وتسيل دموعى الحرّى، وتتساقط على أرض المهانة، التى خلتها يوما موطنى الذى أحب، لقد سرقوا الأوطان وسرقوا معها مشاعرنا الجميلة».

4- ما بين الشك واليقين:

تطرح الروائية عدة تساؤلات بمساحة ذلك الخيط الرفيع الذى يفصل الشك واليقين، الشعرة التى تفصل الإيمان عن الإلحاد.. وتجذب قراءها بكل تعقل وهوادة من منطقة التشكك إلى منطقة الإيمان مرورا بكل الأسئلة التى تخطر على بال الكثيرين وخصوصا شباب اليوم..

من خلال فصل كامل بعنوان «شك»، تمنحنا اليقين، فى تساؤلات مهمة..

على سبيل المثال يتساءل مالك فى حوار مع أحد زملائه المتشددين، كيف لمناضلة أمريكية تُدعى راشيل كورى أن تدخل النار لمجرد أنها لم تعتنق الإسلام؟ هل لأن هذا قدرها أن تولد على دين آخر أو ربما لأنها لا تتحدث العربية فلم تستطع أن تقرأ القرآن؟ كيف وهى التى دفعت حياتها ثمنا لدفاعها عن القضية الفلسطينية تحت عجلات جرار جامح دهسها لأنها وقفت أمامه بكل شجاعة لتمنعه من هدم بيوت الفلسطينيين.

ويسأل صديقه حاتم، لماذا لا تدخل الجنة فهى أفضل من آخرين اعتنقوا الدين ولا ينفذون تعاليمه، فيرد عليه بلهجة قاطعة: «هم كفار قولا واحدا، بلا جدال»

فيتلو مالك عليه قوله تعالى:

«إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون».

ليرد حاتم دون تفكير:

« ذاك حكم اليهود والنصارى والصائبين قبل زمن بعثة الرسول (صلي الله عليه وسلم)».

هكذا تتأرجح الأفكار وتدور الأسئلة فى عقل مالك طوال الوقت باحثا عن إجابات تأتيه غير مقنعة من أصدقائه المتشددين، وعلى الصعيد الآخر يدعوه قلبه لقول رسولنا الكريم، استفتى قلبك ولو أفتوك.

5- رحالة بين المُدن:

الرواية تأخذ القارئ أيضا فى رحلة مشوقة من دولة إلى أخرى، رحلة يبحث فيها مالك عن الحقيقة، فيبتعد تارة ويقترب تارة حتى يرسو على بر الحقيقة.

شعرت وكأن تلك الرحلات هى تجربة الروائية ذاتها فى الترحال لدول زارتها وأرادت أن تكتب عنها، فقررت أن تستبدلها بمسيرة روح بشرية من الإيمان إلى الإلحاد لتبدأ من السعودية وتعود إلى تونس حيث الجذور، ومن الجزائر ثم المغرب و لبنان...مرورا باليونان، الهند، اندونيسيا، الصين وتركيا وترسو أيضا بفلسطين كأرض عربية اغتُصبت هويتها.

الحقيقة وعلى الرغم من ثراء الرواية اللغوى والمعلوماتى إلا أننى أرى أن الرحلة طويلة وغير مُبرر بها العدد الكبير من الدول، فكان من الممكن أن تُقتصر على عدد أقل من الأوطان حتى لا يتوه القارئ، والأهم حتى يصبح هناك مساحة كافية لظهور الشخصيات فتأخذ حقها فى السرد مثل شخصية «ريم»، وهو على ما يبدو أيضا ما جعل الحوار مقتضبا وقليلا، فالسرد هو البطل الأوحد، وعادة ما يبحث القارئ عن الحوار على لسان أبطال الروايات ليغوص فى نفوسهم ويتعرف عليهم، فلو سكنهم لسكنوه.

6- إلتباس:

استوقفنى عنوان الرواية الذى رأيته منذ اللحظة الأولى عنوان رائع وجذاب بلا جدال، وله سحر يسبقك إلى الرواية، ما لم أفهمه هو أننى أثناء بحثى اكتشفت أن هذا العنوان قد سبق الاستعانة به، حيث كان عنوانا لمجموعة شعرية صدرت عام 2016 للشاعر العمانى د.خلدون أمنيعم، وهو ما أوقعنى فى حيرة!..

هل تم هذا بموافقة الشاعر أم أنه مجرد خطأ وقعت فيه الروائية دون قصد؟ الحقيقة أن تاريخ الروائية يشفع لها مؤكدا..ولكن هذا لا يمنعنى من الحيرة، بل أدعو كل قاص بصدد اختيار عنوان لأى عمل إبداعى جديد سواء رواية أو أغنية أو ديوان أو فيلم، أن يقوم بعمل بحث بسيط على جوجل ليصل إلى سبق استعمال هذا العنوان من عدمه، وهى نعمة لم تكن موجودة قبل اختراع هذا المُحرك الذى قصّر المسافات وكشف الحقائق وجعل الخطأ غير مقبول!.

وختاما:

الرواية جذبتنى ودفعتنى للتفكير والتأمل بشكل كبير..واستوقفتنى فيها عبارات بديعة لها ألف معنى، فنحن جميعا فى وقت ما نحتاج إلى النظر إلى الخالق لنطمئن ونستأنس فى وحشة الأيام..

«تهمس بصوت خافت لا يسمعه غيرك، رغم السكون المخيّم حولك، لكنّك تدرك يقينا أنّه يحصى حركاتك وسكناتك، ولا يفوته شىء من خلجاتك. تخرج حروفك مرتبكة باهتة، مثل زفرة طويلة متعبة:

- يا ربّ، يا إلهى.. يا خالقى.. أيّا كان اسمك.. أرنى أنظر إليك!».

على الرغم من بعض التحفظات البسيطة التى سبق وذكرتها إلا أن الرواية بحق جميلة ومختلفة كما عودتنا د.خولة حمدى.. رواية تستحق القراءة.