عادل حمودة يكتب: شوربة ساويرس بالكورونا

مقالات الرأي



حالته صعبة وتهدده بدخول مصحة للعلاج وهو ما اعترف به علنًا مع لميس الحديدي

دعوت الله أن يحفظ نجيب ساويرس فليس لدينا آخر نتباهى به بين الأمم

العالم كله كان تحت تصرفه فأصبح الآن مجبرًا على البقاء فى البيت

ربما كان البقاء فى البيت فرصة للعودة إلى الكتاب المقدس ليراجع نفسه ويحاسبها مثل ملايين البشر فى العالم كله

ما أن عرفت أن نجيب ساويرس يعانى من حالة كلاوستروفوبيا بسبب حظر الساعة السابعة مساء حتى دعوت الله أن ينجيه منها فليس لدينا نجيب ساويرس آخر نتباهى بتصريحاته بين الأمم.

والكلاوستروفوبيا عقدة نفسية تسبب للمصاب بها خوفا ــ يصل إلى حد الذعر أحيانا من البقاء فى الأماكن المغلقة الضيقة أو من الاحتجاز فى زنزانة.

يشعر المصاب بها باختناق وضيق تنفس إذا ما دخل قبوا أو ركب مصعدا أو جلس على كرسى حلاق وكأن الأكسجين جف من الجو.

وعلى ما يبدو فإن حالة نجيب ساويرس صعبة تهدده بدخول مصحة للعلاج منها لو استمر الحظر أو أصبح كليا حسب ما اعترف به علنا فى مداخلة تليفونية مع لميس الحديدى على قناة الحدث.

ونحن نعذره فيما أصابه.. بعد أن كان العالم كله تحت تصرفه ليل نهار وجد نفسه مجبرا على البقاء فى البيت.. عاجزًا عن رؤية أصحابه.. فى أفضل الأحوال يخرج قليلا ليشم هواء أو ليقود سيارته بلا هدف.. لكنه يفعل ذلك ليس ليخفف من آثار الكلاوستروفوبيا فقط وإنما ليحافظ على عواطفه تجاه من يحب أيضا.. فلو بقى معهم 24 ساعة فى البيت سيكرههم حسب تعبيره مع أن الإنسان لا يمل من البقاء مع من يحب متنميا ألا يمضى الوقت.

لم يستفد ساويرس من البقاء فى البيت بتبادل الحنان مع من يحب لزيادة المناعة.. أو بقراءة كتاب جويس أبلى الرأسمالية المتوحشة حتى يكون رأسماليا مثاليا.. يسدد ما عليه من ضرائب.. وينزع المال الحرام عن أرباحه.. ويوظف ما يكسب فى خدمة البشرية.. مثل بيل جيتس.

أو ربما كان البقاء فى البيت فرصة للعودة إلى الكتاب المقدس ليراجع نفسه ويحاسبها مثل ملايين البشر فى العالم كله.. هل أخطأ؟.. هل تجاوز؟.. هل يستحق ما حصل عليه؟.. كيف يعالج عيوبه ويرمم نواقصه ويعتذر عن عما وقع فيه؟.. خاصة أن المسافة بين الحياة والموت فى زمن الأوبئة لا تزيد أحيانا عن لحظات.

والسؤال الأهم: لم يستفز الناس بتصريحاته عادة؟.

آخر هذه التصريحات استنفرت السوشيال ميديا ضده كالعادة وخرج محترفو الحديث على اليوتيوب يهاجمونه بشراسة غير مقبولة فى وقت علينا فيه تنقية القلوب من الغل والسواد والتماس الأعذار للآخرين والحوار بالحسنة خشية الموت على ذنوبنا بسبب الفيروس اللعين الذى لا يستطيع أحد أن يضمن السلامة التامة منه مهما كانت ثروته وسلطته وقوته.

ما أثار الاستفزاز فى تصريحات ساويرس هذه المرة إصراره على عدم مد الحظر وإعادة العمالة إلى المصانع والشركات الخاصة حتى لا يفلس أصحابها خلال شهور قليلة خاصة لو دفعوا كامل الرواتب أو نصفها أو ربعها.

كان مبرره أن نسبة الإصابة فى مصر واطية بالنسبة للعالم كله.. ونسبة الوفيات واحد فى المائة وأغلبهم من كبار السن.. ولكن يبدو أن معلومات لم تكن دقيقة.. نسبة الوفيات ارتفعت إلى ستة فى المائة.. حسب ما صححت لميس الحديدى.

جانب ساويرس الصواب عندما بدا مستهينا بالوفاة ولو واحد فى المائة.. فالروح غالية على أصحابها ولو كانوا أفقر الفقراء.. ليس الأثرياء وحدهم من لهم الحق فى الحياة.. والثروة ليست المبرر الوحيد للبقاء.. والحزن سيكون من نصيب الناس إللى تحت لو فقدوا عزيزا لديهم بنفس الحزن الذى سيكون من نصيب الناس إللى فوق.

ترى لو حصد الفيروس صديقا أو قريبا للباشمهندس ــ لا قدر الله ــ هل كان سيقول ما قال؟ وهل نسى أنه يعد من كبار السن وسيصل إلى سن الخامسة والستين فى يونيو القادم؟.

وحسب ما قال بنفسه فإنه يخاف على أولاده بإجبارهم على البقاء فى البيت ويحرمهم من أصحابهم ويخاف على نفسه بأن يكتفى فى مكتبه بالتعامل مع أربعة أشخاص إذا دعت الضرورة لحضورهم.. يجلسون على بعد أربعة أمتار منه.. فلم يخف على نفسه وأسرته إلى هذا الحد ولا يخاف على غيره؟.

إننا إذا لم نتعادل فى الحياة تعادلنا فى الموت.

تجاهل ساويرس أن إصابة شخص تهدد عشرة بالعدوى.. وربما أكثر.. وحماية مواطن حماية للمجتمع كله.

والثروة البشرية أغلى الثروات.. وحدها تكفى لتنمية مرتفعة القيمة ولو لم تكن فى الدولة موارد أخرى.. هونج كونج خير مثال.

كما أن الثروة البشرية فى استثماراته واستثمارات عائلته فى الداخل والخارج كانت سببا من أسباب وضعهم على رأس قائمة الأغنياء فى مصر ــ حسب مجلة فوربس ــ بذمة مالية تصل إلى 207 مليارات جنيه.

بالقطع مخاوف ساويرس من أزمة ما بعد كورونا مخاوف مشروعة بل سبقناه ــ نحن وغيرنا ــ فى التنبيه إليها ولكن ليس على حساب حياة البشر.

لقد تضررت السياحة قبل غيرها عندما سارع السياح بالعودة إلى بلادهم وتوقف حركة الطيران وغلق الفنادق والمطاعم والشواطئ.

كما أن البطالة أصابت أعدادا متزايدة من العمالة اليومية والمؤقتة.

وبدا واضحا أن الأزمة ستمتد إلى الشركات الخاصة المتوسطة والكبيرة.

ولكننا لا نوافق على نبوءة ساويرس بأن الذين سيعانون من البطالة ستسد الطرق فى وجوههم ولن يكون أمامهم سوى الانتحار أو السرقة.

إن الدولة لا تزال مصدرا رئيسيا لتشغيل الملايين وضمان معيشة مستقرة لهم ولعائلاتهم ( موظفو الحكومة وعمال القطاع العام وضباط وجنود الشرطة والقوات المسلحة ) مثلا.

وهناك أيضا أصحاب المعاشات وهم بالملايين كذلك.

وهناك كذلك الملايين المستفيدة من برامج الحماية الاجتماعية والسلع التموينية الرئيسية المدعمة.

وأعادت الحكومة الروح للملايين التى تعمل فى التشييد والبناء بوضعها فى معسكرات قريبة من المشروعات تحت رقابة صحية صارمة بعد التأكد من سلامتهم.

ولو كان من الممكن التحكم فى مساحة المعسكرات وتوفير المسافات الآمنة بين سكانها فإن المصانع التى يقترح ساويرس أن يبات العمال فيها لا تملك تلك الميزة.. لم تصمم لتكون عنابر إنتاج ونوم معا.. ويمكن أن يتسبب البقاء الجماعى فيها إلى كوارث لا يقدر عليها الأمن الصناعى إذا تجاوزنا عدوى الكورونا.

كل هذه الملايين التى توفر الدولة لها فرص الحياة ستنجو من مصير الانتحار أو السرقة بل إنها لن تتردد فى مساعدة من عجزوا عن تدبير قوت يومهم.

وليست عبارات إنشائية رومانسية: إن الرغبة فى عمل الخير تضاعفت فى ظل الأزمة الحالية.. ربما تقربا إلى الله.. ربما طمعا فى النجاة.. ربما خوفا من الموت.. وضاعف من هذه الرغبة قدوم شهر رمضان.

إننا لم نشهد ــ والحمد لله ــ نهب سوبر ماركت واحد كما حدث كثيرا فى الولايات المتحدة.. مخزوننا الحضارى لم ينفد بعد.. لجوءنا إلى الحكومة فى الأزمات لا يزال يطمئننا.

ولا شك أن المصريين سيراقبون بعيون مفتوحة من سيقف معهم ومن سيتخلى عنهم وسيحاسبونهم فى الوقت المناسب.

التاجر الذى سيرفع الأسعار بلا مبرر لن يتعاملوا معه.. الشركة التى لم ترحم أحدًا سيقاطعون منتجاتها.. رجل الأعمال الذى سيتصرف بغطرسة وأنانية سيسقطونه من احترامهم.

ولو أراد ساويرس هو وغيره من رجال الأعمال أن يعيدوا العمال إلى المصانع فعليهم الكشف عليهم وعلى عائلاتهم وتوفير عناصر السلامة الصحية الدائمة وتعويض من يصاب بما يضمن الستر لعائلته.

ولتكن فرصة مربحة لهم بتحويل خطوط فى المصانع لإنتاج أجهزة التنفس الصناعى كما حدث فى الولايات المتحدة.

إن الدكتور أحمد اللواح توفى متأثرا بالفيروس لفشله فى الوصول إلى جهاز تنفس صناعى فى الوقت المناسب.

على أن ما يلفت النظر أن ساويرس لا يميل إلى الاستثمار فى المصانع وإنتاج السلع.. حسب ما صرح به علنا.. وضع نصف أمواله ( نحو ثلاثة مليارات دولار ) فى الذهب.. والمؤكد أن الذهب ــ فى ظل إغلاق مناجمه بسبب الكورونا ــ سيزيد الطلب عليه.

وما دام ضمن أن يخرج من الأزمة مستفيدا فلم يصدعنا بما يقول؟.

نحن لسنا فى حاجة إلى فلاسفة نحن فى حاجة إلى منتجين.