عبده الـزرّاع يكتب: دو الأسرة والمدرسة في تراجع الشعر!

الفجر الفني

بوابة الفجر


كان العرب قديماً يحتفون بالشعر والشعراء احتفاءً كبيراً، وكلما  ولد لديهم شاعر جديد يقيمون له الأفراح لمدة أربعين يوماً ابتهاجاً بقدومه، لأنه سيكون -فيما بعد- لسان حال القبيلة والمدافع عنها، والمتحدث باسمها مفتخراً بأمجادها وهاجياً لأعدائها، فقد كان يقام للشعر مهرجانات كبري يتباري فيها شعراء القبائل من كل حدب وصوب، ومن هذه المهرجانات الشهيرة "عكاظ" و"المريد" وهما من أقدم وأكبر المهرجانات الشعرية العربية.

 

ولأننا أمة الشعر والشعراء.. فقد حفل أدبنا العربي.. وكتب التراث بالكثير من الشعراء الفطاحل الذين نبغوا نبوغاً كبيراً، واشتهروا شهرة واسعة لما قدموه من إنتاج شعري ضخم نباهى به الأمم، فهم أصحاب المعلقات السبع التي علقت علي أستار الكعبة لعظمة أشعارها، وحفظها الناس عن ظهر قلب، هم أيضاً أصحاب العبقريات الشعرية التي لن ولم تتكرر، ومن هؤلاء الشعراء النوابغ: المتنبي، وأبو نواس، والبحتري، وابن الرومي، والمعري، وعنترة، ولبيد، والأعشي، وعمرو بن أم كلثوم، والأخطل، وجرير، والفرزدق، وأبو العتاهية.. وغيرهم الكثير.

 

وقد روي عن النبي، صلي عليه وسلم  أنه قال: "لا تدع العرب الشعر حتي تدع الأبل الحنين" و"يروي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى عليه وسلم  بنى لحسان بن ثابت في المسجد منبراً ينشد عليه الشعر، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أعلم منه" وكتب إلي أبي موسي الأشعري: "مر من قبلك بتعلم الشعر، فإنه يدل علي معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأسباب" قال معاوية: "يجب علي الرجل تأديب ولده والشعر أعلي مراتب الأدب" (أحمد زلط ـ الخطاب الأدبي والطفولة ص57).

 

إذن كان اهتمام العرب بالشعر اهتماماً كبيراً ولم يكتفوا بروايته علي الأطفال والصبيان في كل المحافل والمناسبات، ولكنهم كانوا يعلمونه لهم تعليماً لدرجة أن هؤلاء الأطفال والصبية أصبحوا شغوفين بالشعر وبحضور مجالسه ومسامراته وحلقات الرواة حتي تكونت لديهم ملكات أدبية فنظم بعضهم الشعر في سن مبكرة، ومن بين هؤلاء الصغار: طرفة بن العبد، ولبيد بن ربيعة، وأبي الطيب المتنبي، وقد نسب إليه ما ارتجله شعراً وهو صبي:

يا أبي من وددته فافترقنا        وقضي الله بعد ذاك اجتماعاً

فافترقنا حولاً فلما إلتقينا         كـان  تسليمه  علـي   وداعـا

 

دور الأسرة والدولة:

 

اهتم العرب بقراءة الشعر لصغارهم وتعليمهم إياه، لأنهم أدركوا أهمية أن يتعلموه صغاراً، ولكن الآن قد أختلف الأمر، فأصبح الشعر غريباً بيننا، لا يقبل عليه الكبار ولا الصغار، ولا يحرص الكبار علي تعليمه لأطفالهم، بل يكتفون بقراءة القصص والحكايات المصورة لهم.

 

وفي ظني أن الشعر ظلم ظلماً بيناً، وخاصة شعر الأطفال، لأنه لم يجد الاهتمام اللائق به من الذيوع والانتشار من خلال الوسائط المختلفة، وخصوصاً الكتاب المطبوع، وهذا راجع ـ فى رأيي ـ لعدم إقبال الناشرين علي نشر دواوين الأطفال، بزعم أن الشعر ليس له جمهور من الأطفال يقبلون علي قراءته، بل هم يقبلون على قراءة كتب القصص والحكايات المصورة، كما تحرص بعض الأسر علي شراء تلك القصص والحكايات لأطفالها، ومن ثم نجد أن الناشرين متحمسين لنشر تلك القصص والاهتمام بها نتيجة هذا الاقبال، فالناشر يهمه –فى المقام الأول- نسبة توزيع الكتاب التي يترتب عليها عامل الربح والخسارة، لأن صناعة كتب الأطفال تتكلف الكثير، لما تتطلبه من ورق مصقول (كوشيه)، وفصل ألوان، وإخراج متميز، وأعتقد أنه لو تحمس بعض الناشرين لنشر دواوين للأطفال يكتبها شعراء كبار وتتواجد جنباً إلى جنب مع القصص والحكايات المصورة، وحرصت الأسرة بوعي علي شراء تلك الدواوين لأطفالها وقراءتها لهم لأقبل عليها الأطفال وأحبوها أكثر من أي شئ آخر، فالطفل بطبيعته يميل للموسيقي والإيقاع، والشعر يعتمد بشكل أساسي علي الموسيقى والإيقاع والدليل علي ذلك، أن الطفل منذ ولادته وأمه تهننه، وتغني له وهو يستجيب لغنائها فعند نومه تغني له: "نام نام.. وادبحلك جوزين حمام" وعندما تلاعبه تغني له: "حادي بادي.. حادي بادي.. سيدي محمد البغدادي.. شال وحط.. وكله علي دي" وعندما تسليه تغني له: "يا طالع الشجرة.. هات لي معاك بقرة.. وتكون حلابة.. تحلب وتسقيني.. بالمعلقة الصيني.. المعلقة اتكسرت.. يا مين يغديني.. يا مين يعشيني.. إلي آخر هذه الأغنية"، وغيرها من الأغاني الشعبية مجهولة المؤلف والتي تناقلها الناس شفاهة جيلاً بعد جيل.. وقد أحب الأطفال هذه الأغاني، وأقبلوا عليها لما تحمله من موسيقي عالية، وكلمات بسيطة وحرصوا علي ترددها صبياناً وبناتاً.. وهذه الأغاني بالفعل تنتمي إلى الشعر الجميل الذي يحمل في طياته معناً عميقاً يعتمد علي الرمز، ومن ثم فهو شعر مستواه الفني راق، ونتيجة لأن الطفل ينشأ علي سماع هذه الأغنيات وترديدها فهو مهيأ لاستقبال الشعر وتلقيه.

 

ومن ثم يقع العبء الأكبر علي الأسرة التي لا تعرف فوائد الشعر، فهو يرقق المشاعر ويهذب الأخلاق، ويثري المخيلة، ويساعد علي ضبط اللغة، ومد الطفل بالكثير من المفردات الجديدة التي تضاف إلي قاموسه اللغوي، فلو حدث وحرصت الأسرة علي شراء تلك الدواوين، وداومت الأم أو الأب علي قراءتها لأطفالهم بشكل منتظم، لتغير حال هؤلاء الأطفال وشبوا علي الطوق وهم يعشقون اللغة العربية والشعر، ولا يقل دور الحضانة والمدرسة عن دور الأسرة، بل يقع العبء الأكبر عليهما بإعتبارهما مؤسستان تعليميتان، يدخل هذا الدور في صلب رسالتهما التعليمية، وهو ترغيب الأطفال في قراءة الشعر وحفظه، وبهذا يستقيم لسانهم في نطق اللغة العربية الصحيح، بل يصبحون عاشقين للشعر والأدب فيخرج منهم شعراء موهوبين، ملمين بجماليات اللغة العربية، فيقبلون علي قراءة الشعر وتذوقه وكتابته في وقت قصير، وأري عدم إقبال الناشرين علي نشر دواوين شعر الأطفال، وعدم حرص الأسرة علي شراء هذه النوعية من الكتب هو الذى خلق هذه القطيعة بين القارئ –الطفل- ـوالشعر "ونحن نحاول أن نسترجع أطفالنا إلي ساحة الشعر بعد أن غادروها منذ وقت طال بسبب الشعر المدرسي الجاف الذي تتضمنه كتبهم المدرسية" (عبد التواب يوسف) ويقع التقصير أيضاً علي الدولة متمثلة في:

 

 أولاً وزارة التربية والتعليم

 

 التي لا تدقق في اختياراتها للنماذج الشعرية التي تقررها ضمن مناهج الدراسة للمراحل التعليمية الأولي، وهىي نماذج في معظمها ردئ فنياً، ولا يتناسب مع روح ووجدان الأطفال مما أدي إلي كراهيتهم المبكرة للشعر ونكون بهذا قد جنينا علي أطفالنا بقتل خيالهم، ومن ثم نطالب وزارة التربية والتعليم بأن تكلف الشعراء الكبار باختيار النصوص الشعرية التي تقرر علي مراحل التعليم الأساسى، بداية من kg  وحتي نهاية المرحلة الإعدادية، فهم –بلا شك- قادرين علي معرفة ما يناسب ذائقة هؤلاء الأطفال واللغة التي تناسب كل مرحلة من المراحل العمرية المختلفة، بل هم قادرون أيضاً علي اختيار الشعر الجيد، الذى يعتمد علي الخيال والأفكار المبتكرة، والصور الشعرية البسيطة والجاذبه لعقل ومخيلة الطفل، من الشعر الردىء الذى يفتقد لكل هذه العناصر الفنية، أو تقوم الوزارة بتكليف شعراء أطفال كبار يكتبون لهم خصيصاً، وفي السنوات الأخيرة ومع ثورة 2011 أعلنت وزارة التربية والتعليم في مصر عن مسابقة بين دور النشر الكبرى علي إعداد  منهج متطور للغة العربية، وقد كلفت دار نهضة مصر –إحدي الدور المشاركة في المسابقة- الشاعر الراحل أحمد زرزور بكتابة قصائد لكتاب القراءة والنصوص في مرحلتي الصف الأول والثاني الإبتدائي، وبالفعل تم اختيار هذين الكتابين من قبل الوزارة، وقررت -لأول مرة-  نصوص أحمد زرزور علي تلاميذ المرحلة الابتدائية، ومن نصوصه التي قررت علي الصف الثاني الإبتدائي، قصيدة (أحب أبي)

 

والتي تقول:

 

"أحب أبي

لأن أبي عطوفا

طيب القلب

وفي صحوى

وفي نومي

أغني عيشتى يا أمي

وتحكي لي معلمتي

فيحلو دائما وقتي"

 

وأري أنها كانت تجربة ناجحة وموفقة، لدرجة أن أبنائي عمر وآلاء كانا يحفظا هذه النصوص عن ظهر قلب، لبساطتها وغنائيتها، وسهولة ألفاظها، وقاموسها اللغوي.

 

  فلدي الطفل خيال جامح قادر علي تصديق كل ما يصل إلي وجدانه وروحه، معبراً وقادر أيضاَ علي رفض كل ما لا يتناسب مع ذائقته بحرية كاملة، لأن الطفل بطبعه لا يعرف المجاملة، وتكون آراؤه صارمة، وصادقه، وصادمة أحياناً، لأنه لا يعرف اللون الرمادي، فيعبر عن آرائه دونما حساب لشىء.