د. نصار عبدالله يكتب: براغيث جستنيان

مقالات الرأي



لعلها من غرائب المصادفات أن يعكف مترجم مصرى شهورًا طويلة على ترجمة كتاب يحكى قصة وباء عالمى حصد الملايين من الأرواح البشرية فى القرن السادس الميلادى، وحين يقدر للترجمة أن تنشر، يكون العالم بأسره بالمصادفة الخالصة منشغلا بأخبار وباء جديد يتهدد سكان الأرض فى القرن الواحد والعشرين ألا وهو وباء «الكورونا»، لعلها من غرائب المصادفات، لكن هذا هو ما حدث بالفعل عندما صدرت فى الأسبوع الماضى عن دار الوفاء بالإسكندرية الترجمة الكاملة التى قام بها الدكتور أسامة عبدالحق أستاذ الميكروبيولوجيا المساعد بجامعة أسيوط لكتاب وليام روزين: براغيث جستنيان (والذى كان لى شرف مراجعة تلك الترجمة التى استمتعت بها استمتاعا كبيرا كقارئ)، وجستنيان لمن لا يعرف هو واحد من أعظم الأباطرة الرومان الذين كانت لهم إنجازات باهرة فى شتى الميادين وبوجه خاص فى الميدان العسكرى حين استطاع أن يسترد للإمبراطورية الرومانية الكثير من الأقاليم التى كانت قد فقدتها فى عصر الأباطرة السابقين، غير أن المحنة التى لم يستطع أن ينتصر عليها كانت وباء الطاعون الذى بدأ يستشرى فى أوصال الإمبراطورية بدءًا من عام 540 ميلادية وراح يضربها هى وغيرها بعنف فى موجات متعاقبة، فكلما خفتت موجة وخيل للناس فى كل مكان أن الوباء سينحسر، بدأت موجة جديدة لا تقل ضراوة عن الموجة السابقة إلى أن بلغ عدد الضحايا ما يقرب من خمسة وعشرين مليونا من الأنفس فى وقت كان تعداد العالم بأكمله لايتجاوز المائة مليون!!، وفى ذلك الوقت لم يكن البشر يعلمون سببا لهذا الوباء الفتاك ولا لغيره من الأوبئة سوى أنها ابتلاء من الله، وقد ظلوا كذلك إلى أن اكتشف العالم الفرنسى السويسرى الكسندر يرسين فى عام 1894 أن هذا المرض تسببه بكتيريا عصوية الشكل أطلق عليها بكتيريا اليرسينيا تخليدا لاسمه، وهذه البكتيريا تصيب فى الأصل القناة الهضمية للبراغيث التى تتطفل على الفئران مكونة وإياها ثالوثا مرعبا أضلاعه هى: البكتيريا، البراغيث، والفئران وغياب أحد أضلاع هذا الثالوث يؤدى إلى عدم حدوث الوباء. وقد كان من الممكن أن تستمر الحياة بلا مشاكل، وألا ينشغل الإنسان بعلاقة الغرام تلك بين البكتيريا والبراغيث والفئران، ولكن المأساة حدثت وجعلت الإنسان طرفا فى تلك العلاقة المعقدة عندما أصبحت البكتيريا أكثر فتكا مما أدى إلى ارتفاع نسبة موت الفئران من جراء الإصابة بالبراغيث المصابة ببكتيريا اليرسينيا المسببة للطاعون، وأصبح الآن على البراغيث أن تجد لها مصدرًا متجددا للدماء الدافئة تقفز عليه بدلا من الفئران الهالكة. ولسوء الحظ لم يكن هناك مصدر أفضل لتلك الدماء الدافئة من تلك الكائنات التى تعيش بجانب الفئران بكثافة، ألا وهى الكائنات البشرية!! ومما زاد الطين بلة أن عام 536 م كان واحدا من أسوأ الأعوام فى التاريخ إن لم يكن أسوأها، حيث شهد العالم العديد من الثورات البركانية التى أدت إلى تكوين طبقة كثيفة من الغبار غطت العالم بأسره وأصبح الظلام يسوده ليلا ونهارا، وقد أدت تلك الكارثة إلى انخفاض درجات الحرارة بمعدل يتراوح من 1,5 – 2,5 درجة وهذا الانخفاض فى درجة الحرارة الناجم عن النشاط البركانى مكن الفئران المصابة بالبراغيث المحملة ببكتيريا اليرسينيا من الانتقال من الموطن الأصلى الذى هو على الأرجح فى شرق أفريقيا وأثيوبيا إلى مصر. وفى مدينة بلوسيوم أو الفرما (بالقرب من بورسعيد الحالية) ظهرت أولى حالات الإصابة ومنها انتقلت الإصابة إلى الإسكندرية التى كانت أحد الموانئ الرئيسية لتصدير الحبوب إلى مدن الإمبراطورية الرومانية. حيث كانت سفن الحبوب تحمل ركابا غير مرغوب فيهم، فئرانا سوداء صغيرة حية وميتة على ظهر السفن، ذلك أن الفئران نفسها كانت تواجه أزمة تهدد بقاءها، حيث كانت تتعرض هجوم ضار لم تعهده من قبل من البراغيث المحملة بسلالة جديدة من بكتيريا اليرسينيا أشد فتكا وضراوة من ذى قبل. وبعد موت الفئران فإن البراغيث كان عليها أن تجد ضحية جديدة لها، وكانت ضحيتها فى هذه المرة هى الإنسان، وهكذا حدثت المأساة التى كانت واحدة من أفدح المآسى فى التاريخ البشرى، إن لم تكن أفدحها على الإطلاق.