عادل حمودة يكتب: إنقاذ كرامة المواطن المصرى يبدأ من بورسعيد

مقالات الرأي



أطباء فقدوا الصلاحية ومستشفيات تعتقل المرضى وفقراء يتمنون الموت قبل أن يهاجمهم الألم

وضع معايير مستقرة ومثالية للخدمات الطبية ولوائح للتأديب لإنقاذ نظام التأمين الصحى الجديد


تذهب شرقا.. تتجه غربا.. تسافر شمالا.. تعود جنوبا.. الناس فى جهات الدنيا المختلفة يجمعون على أن الشفاء من مرض يحتاج فى كثير من الأحيان إلى معجزة مالية لا يقدر على توفيرها سوى بنك مركزى.

إن المرض يذل أكثر البشر تجبرا.. يضعفه.. يشقيه.. يحطم كرامته.. يلغى اللون الأخضر من عينيه.. يسود سماواته.. ويسمم حياته.

ولو فشل مريض فى تدبير تكاليف العلاج فليس أمامه سوى الدعاء إلى الله أن يقدم ساعته عن موعدها ليموت قبل أن يعجز عن احتمال الألم.

إن لقمة خبز تكفى لتلافى الجوع.. وشربة ماء تكفى لتجاوز العطش.. وقطعة حطب تكفى لإبعاد البرد.. ولكن.. المرض قصة أخرى.

يحتاج المريض إلى طبيب بارع ليكشف عليه بعد أن يدفع الفيزيتا.. ومعامل تحاليل وأجهزة أشعة للتأكد من سلامة التشخيص يدفع تكاليفها قبل أن يجريها.. وروشتة علاج تصف أحيانا أكثر من دواء وتفرض أحيانا تكراره.. ولو احتاج الأمر إلى جراحة فلا مفر من بيع سيارة أو رهن بيت أو قرض من مرابى حتى لا يعتقل فى المستشفى إن لم يسدد الفاتورة.

إن أبسط مرض (زكام أو مغص أو صداع مثلا) يحتاج مئات الجنيهات فما بالنا بالأمراض المزمنة (الضغط والسكر والكروسترول مثلا) والأمراض المستعصية (السرطان مثلا) إنها تحتاج إلى منجم ذهب لا ينفد.

وربما للحمى التى أصابت تكاليف العلاج انكفأ الفقراء على أنفسهم مكتفين بالأعشاب والأحجبة والوصفات البلدية التى تفيد فى حالة واحدة.. تقصير عمر المريض.. فلا يطول عذابه.

وتنفرد مصر بظاهرة فريدة من نوعها.. اللجوء إلى الصيدلى لتشخيص المرض لتوفير أجرة الطبيب وتجنب قوائم الانتظار فى عيادته.. ويكتفى الصيدلى بالأعراض الظاهرة.. ويقترح دواء غالبا ما يزيد من صعوبة الحالة.

ولو تفاءل المريض ودخل أحد المستشفيات العامة فإن أسبوعا أو شهرا قد يمر عليه دون أن يرى طبيبا إلا إذا دفع رشوة أو كانت لديه واسطة.

والمؤكد أننا انتصرنا فى أكتوبر وانهزمنا فى قصر العينى.

وليس هناك نصف علاج.. أو علاج حسب قدرة المريض.. أو علاج بالتقسيط.. أو علاج على مراحل.. هناك علاج لكل مريض حسب بروتوكول يوضع بدقة بغض النظر عن التكلفة.. لابد أن ينال المريض ما يستحق من علاج حتى تمام الشفاء.. هذا حقه.. وبعده نبحث فى وسائل سداد الفواتير.

والحقيقة أن تكاليف العلاج المثالى المتكامل المأمون غالية جدا وليست فى مقدور تسعين فى المائة من البشر حتى فى أغنى دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة واليابان وسنغافورة.

إن إنفاق الولايات المتحدة على الرعاية الصحية (مثلا) يصل إلى 3.4 تريليون (ألف مليار) دولار.. نحو 20 فى المائة من الناتج المحلى.. تسدد الحكومة الفيدرالية تريليونًآ ونصف التريليون.. وتسدد حكومات الولايات والشركات 1.2 تريليون دولار.. ويتحمل المشاركون فى التأمين العلاجى باقى المبلغ (700 مليار دولار).

ويدفع المواطن قليلا من المال وهو سليم ليعالج مجانا من المرض ويا ويل من يحتاج علاجا وليس مشتركا فى التأمين.. لن يقدر على السداد ولو باع بيته وسيارته وأولاده ونفسه.. إن تكاليف ولادة طفل تزيد على عشرة آلاف دولار.. وجراحة إزالة حصوة فى الكلى تزيد على عشرين ألف دولار.. ومريض ضغط الدم المرتفع ينفق على الدواء المجبر تناوله يوميا بلا توقف ألفى دولار شهريا.

أنا شخصيا وجدت نفسى متورطا فى دفع 14 ألف دولار لطبيب عيون لعلاجى من خشونة ما بعد جراحة «المية البيضاء» بجانب نحو ألفى دولار ثمن مراهم وقطرات لعلاج لا يزيد عن أسبوعين.. وكنت مضطرا لذلك بعد أن فشل أطباء مصر فى علاجى.

لو كنت أمريكيا مشتركا فى التأمين الصحى وأدفع عشرين دولارا شهريا ما تحسرت على ما دفعت ولولا بطاقة الائتمان لوجدت نفسى فى حرج شديد.

والحرج نفسه يشعر به ملايين المصريين فى مصر حيث جنت تكاليف العلاج إلى حد فقدان السيطرة عليها واستحالة التفاهم معها.

وربما القادر على تحمل تكاليف الخدمة لا ينالها بالمستوى المطلوب للشفاء.. طبيب اهتم بجمع المال ولم يهتم بتجديد معلوماته ففقد صلاحيته حسب القواعد العالمية التى تختبر الطبيب كل خمس سنوات لتجدد رخصته أو لتسحبها منه.. معامل تحاليل بلا رقابة.. تختلف نتائجها من معمل إلى آخر.. مستشفيات عامة وخاصة وجامعية وخيرية لا تخضع غالبا للمواصفات القياسية.. وتمريض يقدم الخدمة حسب البقشيش الذى يتلقاه.. ونقابة أطباء لا تعاقب أعضاءها على أخطائهم.. ومن نجا من العقاب أساء الأدب.

ولدى حالات صارخة تثبت صحة توصيفى للعائلة العلاجية فى مصر.

هنا.. لابد من وضع معايير مستقرة ومثالية للخدمة الطبية ولوائح تأديب من يتجاوزها وإلا لقى نظام التأمين الصحى الجديد نفس مصير النظم السابقة.. لسبب بسيط أن البشر العنصر الأهم فى الفشل والنجاح.

وعلى ما يبدو فإن النظام الجديد استوعب هذه الحقيقة بأن وضعت خطة تنفيذه على ست مراحل على مدار 15 عاما (2018 ــ 2032) بحيث يسهل متابعة المرحلة الأولى والتحكم فى معالجة سلبياتها وتلافيها فى المراحل التالية.. وتشمل المرحلة الأولى - التى بدأت بتدشين الرئيس للمشروع من بورسعيد - محافظات القناة التى تتمتع بمستوى دخل مناسب وسيناء (شمالها وجنوبها) بأعداد سكانها المحدودين مما يوفر للتجربة فرص نجاح تشجع على الانتقال بها إلى المرحلة الثانية ذات الكثافة السكانية الأعلى وهكذا حتى نصل إلى المرحلة السادسة التى تطبق على القاهرة الكبرى التى تضم ربع السكان تقريبا.

أسلوب الخطوة خطوة يعنى التقدم بهدوء نحو النجاح فى نظام علاجى معقد ومكلف بطبيعته ويصعب على أكثر الدول ثراء تحمل تكلفته.. إن ثلث سكان الولايات المتحدة (مثلا) خارج نظام التأمين الصحى رغم تنفيذ ما سمى بمشروع أوباما كير.

التكلفة التى تقدر بالمليارات السبب المباشر لنجاح أو تراجع النظام هناك أو هنا.. وتوفير الموارد المالية المطلوبة تضمن جودة التنفيذ.. واستمرار الخدمة عند مستواها المثالى.. وسوف تتحمل الدولة النسبة الأكبر من التكلفة على أن يشترك المواطن هو وعائلته بنسبة لا تذكر من دخله ينفقها عادة إذا ما جلس يوما على مقهى بجانب ضرائب إضافية على السجائر والخمر وأمور أخرى.

وسبق البدء فى التنفيذ تمهيد مقنع بالنجاح فى حملة القضاء على فيروس سى والقضاء على قوائم انتظار المرضى لإجراء الجراحات الحرجة وإطلاق مشروع المستشفيات النموذجية العامة والجامعية.

وهنا أشير إلى أن كثيرا من المستشفيات العامة والجامعية فى دولة عظمى مثل الولايات المتحدة ينفق عليها بأوقاف أغنياء وضعت صورهم فى مداخلها.

ولن تصدق أن فى مصر من هم أكثر ثراء ولكنهم لا يلينون لطفل فى حاجة إلى حضانة فى مستشفى أبو الريش.. ولا يلتفتون لشيخ يحتاج جراحة لإزالة حصوة فى الكلى.. ولا يبالون بامرأة شابة تحتاج لجراحة فى القلب لتربى صغارها.

إن تلك المشاعر جعلت أحمد العينى باشا يتبرع بقصره لتحويله إلى كلية طب تتبع جامعة القاهرة وتبرع الشيخ عبد الرحيم مصطفى الدمرداش بأرض بنى عليه مستشفى الدمرداش الذى تحول بدوره إلى مستشفى جامعى لطب عين شمس وبنى سيد جلال بكل ما جمع من مال مستشفى وضع عليه اسمه فى باب الشعرية تحول إلى مستشفى جامعى لطب الأزهر.

هل اختفت هذه النوعية من الرجال فى مصر؟.

سؤال صعب أترك لك الإجابة عليه.