منى غنيم تكتب : حكايات الأسكندرية القديمة

ركن القراء

الإسكندرية
الإسكندرية


المدينة الأسطورية ذات الأرض والبناء من المرمر الأبيض، التي وصفها المؤرخون بأنها لامعة يتناقض بياضها مع سواد- واحمرار- ثياب قاطنيها، ويصعب على المرء دخولها بدون وضع غطاء لستر عينيه من بهر الطلاء وبهاء المرمر، أو السير فيها ليلًا بسبب ضوء القمر على الرخام الأبيض الذي يجعلها تضيء حتى أن الحائك يستطيع أن يضع الخيط بالإبرة بغير الاستعانة بمصباح!..الإسكندرية.

هكذا جذِل بها قلب بن العاص حين رآها لأول مرة حين أتاها فاتحًا بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب فقال :"قد فتح الله علينا مدينة من صفتها أن بها أربعة آلاف قصر، وأربعة آلاف حمام، وأربعمائة ملهى، واثني عشر ألف بائع خضار، وأربعين ألفًا من اليهود أهل الذمة"، لقد بُهِر العرب بهندستها الميدانية وطرقها العظيمة لاسيما الطريقين العظيمين الذين كانا يقطعان المدينة من أطرافها، وكان أحدهما  يصل باب الشمس في الشرق بباب القمر في الغرب الذين بناهما الإمبراطور الروماني أنطونيوس بويس، كما فُتنوا بصهاريجها العجيبة تحت الأرض؛ التي كان لبعضها طبقات متتالية عددها أربعة أو خمسة، وكان في كل طبقة عدد كبير من الأعمدة والحجرات حتى قال المؤرخ السيوطي في وصفها أن الأسكندرية مدينة قائمة على مدينة وأن ليس في البلاد مثلها على وجه الأرض، وكانت هذه الحجرات الدفينة تستخدم لتخزين المياه التي تصل اليها في قنوات قادمة من ترعة الماء العذب التي كانت تشق المدينة في حي "المصريين"، وكان يتم ملؤها أيام الفيضان فيشرب منها الناس على مدار السنة، ويتم تحديد حجم وارتفاع الصهريج عامة استنادًا إلى كثافة السكان في المنطقة، ولازالت بعض آثار بعض هذه الصهاريج قائمة تشهد على ابتكارات منارة العلم القديمة نذكر منها صهريج الشلالات، وصهريج مسجد البوصيري، وصهريج "مباهما" الأثري بميدان سيد درويش في كوم الدكة الذي أعلنه محمد متولي، مدير عام أثار الأسكندرية والساحل الشمالي بقرار وزاري رقم ٣٤٩ لسنة ٢٠١٨ لخالد العناني، وزير الآثار واحدًا من الآثار الإسلامية بمحافظة الأسكندرية، وقد تم تحويل الصهريج مخبأ عام وقت الحروب التي شهدتها البلاد في القرن العشرين، فتم فصل الصهريج الواحد لطابقين تم تزويدهما بمدخلين أحدهما بالجهة الشرقية والأخر بالجهة الجنوبية، بالإضافة الى درجات سلم حديدية لتسهيل عملية نزول المواطنين للمخبأ أثناء الغارات.

 

وقد جاء في كتاب" فتح العرب لمصر"  لألفريد بتلر أن أفخم حي في المدينة القديمة كان حي يُسمى "البروكيون" ، وكان هناك حي آخر في الشرق به معبد مكشوف اسمه "التترابيلوس" عبارة إيوان به أربعة صفوف من الأعمدة قيل أنه قابع في منطقة مقدسة لأن الإسكندر دفن فيه النبي أرميا، ولم يغفل بتلر عن ذكر كنيسة "القيصريون " عظيمة الشأن التي كان يراها الرائي أول ما يرى حين يأتي من ناحية الميناء و المنارة ، وهي كنيسة لا تقل عظمة عن الأكروبولس والسرابيوم وعمود دقلديانوس (عمود السواري) الشهير في نهاية المدينة في الجانب الآخر، وكانت كنيسة "القيصريون" في مبدأها معبدًا للأوثان بنته كليوباترا من أجل يوليوس قيصر وظل المكان محتفظًا باسمه حتى بعد الفتح العربي الإسلامي، ولم يتحول إلى كنيسة إلا حوالي سنة 350  ميلادية.

 

وجدير بالذكر أن ما حدث لهيباتيا الوثنية من سحل في شوارع الأسكندرية على يد طائفة من المسيحين المتعصبين قد بدأ في "القيصريون"، وكانت الكنيسة آية في الحسن مبنية على طراز الكنائس البيزنطية، ومن المؤسف أنها لم تبق قائمة لمدة طويلة بعد فتح العرب لمصر، ولم يبق منها إلا اسمها في صورته العربية: "القيصرية"، وقد اعتمد العرب الاسم لفترة حتى أنه قد جاء في كتاب شمس الدين المقدسي أن المسلمين في بادىء الأمر كانوا يطلقون اسم القيصرية على مساجدهم الكبرى.

 

 وقد اختلط الأمر تاريخيًا في وصف مسلات "القيصريون" ووصف منارة الأسكندرية كما أورد بتلر، فوصفها المسعودي أنها قائمة على أساس من زجاج له صورة السرطان في جوف البحر، يعلوها تماثيل عجيبة من النحاس يقومون بمهام مختلفة؛ فمثلًا كان هناك تمثال نحاسي ذي جناحين  يرمز للإلهة هرمس، إلهة النصر عند اليونانيين، وتمثال  آخر يشير بيده اليمنى إلى الشمس ويدور معها وعندما تغرب ينزل يده، وآخر يشير إلى البحر إلي الجهة الذي يأتي منها العدو، فإن اقترب من المدينة خرج منه صوت هائل يُسمع على بعد ثلاثة أميال لينذر أهل المدينة بالخطر، وآخر كان كلما مضت ساعة في الليل أو في النهار سمعوا له صوتًا مختلفًا عن الصوت الذي صدر منه الساعة الفائتة، وعلى الأرجح أن هذا الوصف ينطبق على مسلتي "القيصريون" العظيمتين اللتين ورد ذكرهما في كتابات العرب الأوائل لا على المنارة؛ حيث وصفتا أنهما مسلتان قائمتان على قاعدتين على شكل سرطان، وأيضًا عندما تم نقل أحدى المسلتين إلى نيويورك، وجدوها قائمة على أربعة أشكال من المعدن على هيئة السرطان.

 

 كانت منارة الأسكندرية قائمة في الشمال الشرقي من جزيرة "فاروس" و كانت تتصل ببر المدينة عن طريق طويل  يُسمى "الهبتاستاديوم" ، وقد وصفها الحكام والمؤرخون على حد سواء بأنها عجيبة البناء، ووصفها المؤرخ الإدريسي أنه لا يماثلها شيء في العالم في قوة بنائها ونظامها في من أصلب الصخور، وقد بناها "سوستراتوس الكنيدي"  أيام "بطليموس الثاني فلادلفيوس"، وامتازت  ببرج ذي أربع طبقات، كل طبقة أضيق قطرًا من سابقتها، والطبقة العليا عبارة عن مصباح توضع فيه النار من أجل هداية السفن، ومرآة عجيبة منحت المنارة مركزها في قائمة عجائب الدنيا السبع القديمة.

 

 وقد بالغ المؤرخون كثيرًا في وصف حجم المنارة حتى قال عنها المقريزي أن كل من دخلها ضل الطريق بداخلها بسبب كثرة عدد الغرف والمماشي بها، وقيل أن مجموعة من المغاربة جاؤوا مصر أيام خلافة المقتدر دخلوا المنارة على ظهور خيولهم فضلوا طريقهم بها حتى سقطوا في البحر! ولم تسلم المرآة أيضًا من المبالغة حيث وصفها الصحابي عبد الله بن عمرو أنها "من عجائب بلاد العالم التي على منارة الاسكندرية وهي تكشف ما يجري في القسطنطينية"،  وكانت المرآة  تتخذ كسلاح لإحراق سفن العدو و أيضًا لرؤية العدو عن بعد بسبب خاصيتها الفريدة في تجميع أشعة الشمس و عكس الضوء، كما أن ما أورده مؤرخو العرب في القرن العاشر الميلادي من وصف هذه المرآة يمكن أن نعده تنبؤًا باستعمال المنظار المقرب" التلسكوب" كما جاء في كتاب بتلر، وبهذا يمكن أن تكون مدرسة الإسكندرية العظمى قد تفوقت في علوم الرياضة و وكشفت سر صناعة العدسة الضوئية مبكرًا.

 

 ولقد انتهت المنارة العظيمة نهاية مأساوية على يد الروم الذين شعروا بالغيظ بسبب تمتع المسلمين بالمنارة، واستعمالهم لها في الحماية ورد غارات البحر فلجأوا للحيلة من أجل تخريبها؛ فذهب رجل من حاشية ملك الروم إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك في القرن الثامن ميلادية محملًا بالهدايا، وتظاهر أنه جاء مضطهدًا منبوذًا من بلده راغبًا في الإسلام فصدقه الخليفة ورحب بإسلامه، فأوهم الرجل الخليفة بوجود كنز من ذهب وجواهر خاص بملوك مصر القديمة مدفونًا تحت المنارة فصدقه الخليفة وطمع في الكنز فأمر بهدم نصف المنارة وإزالة المرآة، فلما كشف العاملون الخدعة وأخبروا الخليفة كان قد لاذ بالفرار ولكن بعد أن نجح بالفعل في هدم المرآة السحرية، ولم يستطع العرب أن يعيدوها لوضعها السابق أبدًا، وبرغم جهود السلطان بيبرس في ترميم وإصلاح المنارة فيما بعد، إلا أن الزلزال الذي وقع عام 1375 قد دمر معظمها فلم تبق إلا الطبقة السفلية للبرج.

 

ولم تستأثر المنارة وحدها في الأسكندرية القديمة بعجائب الوصف في التأريخ، بل نال عمود السواري أيضًا جانبًا كبيرًا؛ فقد ذكر بتلر في كتابه أنه قيل أنه كان جزءًا من معبد سليمان، وقال ابن الفقيه، المؤرخ والجغرافي الفارسي عنه : "أن الإنسان إذا رمى عليه قطعة من الزجاج وقال عند ذلك "باسم سليمان بن داوود تكسري" انكسرت، ولكنه اذ لم يذكر الطلسم لم تنكسر"، ورُوت قصة أخرى عنه أنه مسحور وأن  الإنسان اذا أغلق عينيه وسار باتجاه العمود لم يستطع بلوغه قط!، بل وزعم المؤرخ السيوطي أنه جرب ذلك بنفسه.

 

والجدير بالذكر هنا هو مدى اعتزاز القبط بمصريتهم؛ فلم يسموا المدينة فيما بينهم قط باسم الإسكندر الأكبر ب بل استعملوا أسماء مصرية مثل راقوتي الذي أطلقوه على حي السرابيوم و عمود السواري، وقد روى المقريزي عن المسعودي في وصف السرابيوم أنه :" كان بالأسكندرية قصرًا عظيمًا لا يماثله قصر في بلاد العالم قائم على تل عظيم تجاه باب المدينة كان طوله خمسمائة ذراع و في القصر مائة عمود وفي صدره عمود لم ير مثله في الحجم وله قمة كالتاج"، وقد تفنن المؤرخون في وصف جمال معبد السرابيوم الذي كان يتوسطه معبد من الذهب والعاج ملئ بالتماثيل والألوان الزاهية لعبادة الإله "سرابيس" كما كانت حجراته مليئة بالكتب، وموقعه على مقربة من الباب الجنوبي للمدينة الذي أسماه العرب باب الشجرة.

 

وذكر الرحالة بنيامين التودلي أيضًا الذي زار المدينة عام 1160  أنه رأى بناءًا جميلًا له أعمدة من المرمر تفصل بين حجراته الكثيرة يسمونه "مدرسة أرسطو"، وذلك يطابق ما اورده المسلمون في تأريخهم حيث ذكروا "قبة أرسطو" أو "بيت الحكمة"، وقد تم تدميره بالكامل على يد حاكم للأسكندرية  اسمه "قراجا" من وزراء صلاح الدين أمر بهدم هذه الأعمدة وحمل أكثرها الى البحر فألقاها ليحول بين العدو وبين نزول البحر كما جاء في خطط المقريزي .

وبرغم أن معظم المدينة قد تحولت إلى أطلال بفعل الزلازل المتكررة بحلول القرن الحادي عشر إلا أن حكاياتها لم تنتهي، وظلت باقية بآثارها تقاوم الزمن برًا وبحرًا وبمكتبتها العتيقة التي حوت أسرار العالم القديم وانطلقت كشعاع نور نحو العالم الحديث متحدية حتى الحرق! ولهذا حكاية أخرى..