د. رشا سمير يكتب: شجرة الكستناء العتيقة

مقالات الرأي



«يُحكى أنه فى قرية بعيدة هادئة الملامح والأماكن، بالتحديد فى وسط السوق القديم تقف شجرة كستناء عتيقة شامخة الأفرع، ممتدة الجذور، ملفوفة الأوراق.. تطرح فى الربيع ثمارا وتحنو فى الصيف على من يتظللون بظلها.. لم تنبع أهمية تلك الشجرة من كونها مجرد شجرة كستناء، بل كانت هى الشجرة الوحيدة الباقية فى تلك القرية الصغيرة بعدما قرر عمدتها قطع كل الأشجار لبناء المصانع والطرق والمحال.

وأما أطفال الحى، فتلك الشجرة هى مكانهم للهو وقضاء الأوقات السعيدة، يترنحون فوق أغصانها، يختفون تحت أوراقها المتراكمة فوق الأرض فى لعبة الاستغماية، ويقهقهون بأعلى أصواتهم وهم يدورون حولها.

الأساطير تقول إن تلك الشجرة العتيقة هى أقدم إنسان فى القرية البعيدة، وهى الأكبر سنا والأقدم تاريخا، حتى أُشيع أن المدينة بُنيت حولها.

فى بيت صغير يطل على الشجرة، يعيش طفل وحيد أبويه، يعتبر تلك الشجرة هى صديقته الوحيدة، فعندما يمرض تداعبه بأغصانها التى تسقط من أعلى على نافذة حجرته، بل كانت تنقر على الزجاج بأفنانها لتوقظه كل يوم فى موعد المدرسة، وكلما جافاه النوم كان ينظر إلى أعلى ليتابع ظل الأغصان على سقف حجرته فيغفو فى هدوء بابتسامة على وجهه البرىء.

لم يكن أمام عمدة المدينة إلا أن يجد سببا قويا لقطع تلك الشجرة الأخيرة التى أربكت حساباته..

وفى أحد الأيام العاصفة سقط فرع ضخم من فروع الشجرة ليحطم المقعد الخشبى الكائن تحت الشجرة.. فكانت تلك هى ذريعة النهاية..

أعلن العمدة أن تلك الشجرة توحشت فروعها وأصبحت تشكل خطراً جسيماً على الأرواح مما يستوجب إزالتها، فربما فى المرة القادمة يسقط فرع فوق أحد الجالسين وينتهى الأمر بكارثة..

وافقه كل الأمهات والآباء، إلا الطفل الصغير الوحيد، الذى صرخ فى وجهه قائلا:

«إنها ليست غلطة الشجرة، إنها غلطة العاصفة، حاسبوها واتركوا صديقتى».

فى اليوم التالى جاء العمال ومعهم المناشير لقطع الشجرة ليفاجئوا بما لم يتوقعوه..أطفال الحى واقفون حول الشجرة فى دائرة كبيرة ممسكون بأيادى بعضهم البعض، ومصممون على ألا يقترب أحد من الشجرة..أمام إصرار الأطفال وتعلقهم المخيف بالشجرة.. قرر رجال الإطفاء والعمال أن ينسحبوا تاركين المكان.. هكذا نجت الشجرة العتيقة، وبقت فى مكانها أعواماً وأعواماً، ليلهو تحتها جيل بعد جيل، وهى تنظر إليهم من أعلى وتبتسم».

تلك القصة هى كتاب للأطفال كتبه المؤلف والشاعر الإنجليزى مايكل موربورجو البالغ من العمر 76 عاما بعنوان Old sticky.. وقع هذا الكتاب فى يدى عن طريق صدفة بحتة حين حكت لى عنه صديقة حالمة مثقفة، فاستوقفنى المعنى من وراء الحكاية، وإحقاقا للحق، تذكرت تلك القصة وأنا أتابع ردود فعل قاطنى منطقة مصر الجديدة عن توسعات الشوارع وتطوير الطُرق.

الأزمة بكل وضوح لها شقان.. الأول هو أن منطقة مصر الجديدة الرائعة الخلابة التى نشأت وترعرت أنا شخصيا فيها، اختنقت من الزحام السكانى والعربات المتراصة وضيق الشوارع حتى تحولت بعض المناطق إلى عشوائية بغيضة، ومما لاشك فيه أنه آن أوان توسيع تلك الشوارع بنظرة شفقة للمنطقة الراقية.. والشق الآخر هو أن مصر الجديدة لها طابع قديم مختلف هادئ، منازلها ذات الأدوار البسيطة التى تغازلها الأشجار والزهور والحدائق الرائعة التى تحتضن العمارات، هو طابع مختلف أعطى المنطقة مذاقاً خاصاً وجعل سكانها يشبهونها.

من هنا أجد لقاطنى المنطقة ألف عذر ولثورتهم ألف مبرر.. فالأشجار عمرها من عمر المنطقة وارتباط السكان بالحدائق والأشجار هو ارتباط تاريخى له علاقة بطفولتهم وذكرياتهم عن المكان.

قطع الأشجار ليس مبرراً لتوسيع الشوارع، فتحريك الأشجار إلى أماكن أكثر رحابة أو ربما تركها فى مكانها بدلا من قتلها وزرع شتلات صغيرة بدلا منها، أثار غضب السكان على الرغم من أن تطوير المنطقة هو حل لا بديل له، كما أن حرص فخامة الرئيس على تفقد العمل بنفسه وتوجيهاته بالحفاظ على طابع المنطقة الراقى دلالة على اهتمام ورؤية ربما لم تصل للقائمين على العمل.

لا ننسى أن العالم فى أزمة حقيقية، فالاحتباس الحرارى تسببت فيه أيدى الناس، وقطع الأشجار التى نتنفس من خلال أوراقها هى سبب مباشر فى التلوث وتغيير المناخ.

تتجه دول العالم فى كل مكان إلى زرع المزيد من المساحات الخضراء، فكيف يصبح توجهنا ونحن نبحث عن التنمية المستدامة هو عكس ذلك.

أتمنى أن يتم تفعيل القانون فى الشوارع التى تتم توسعتها، حتى لا تقع مرة أخرى فى فخ الفوضى وكأنك يا أبو زيد ما غزيت!.

دعوة إلى رؤساء الأحياء والمحافظين فى كل أنحاء مصر.. أرجوكم حافظوا على تلك الشجرة العتيقة الأخيرة.