تفسير الشعراوي لقوله تعالى: {وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله} الآية 71 من سورة الأنفال

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


تفسير الشعراوي للآية 71 من سورة الأنفال

{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ(71)}

ويوضح الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: لا توافقهم على ما يريدون، فهم إن أضمروا لك الخيانة فقد خانوا الله من قبل فمكنك منهم فلا تأمن لهم، وسبحانه يعلم ما في صدورهم.

وبعد أن تكلم سبحانه عن قصة بدر وأسرى بدر، والمواقف التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته في هذه القصة، أراد سبحانه وتعالى أن يصنف الأمة الإسلامية المعاصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عناصرها، ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاح بالدعوة الإسلامية في مكة، ومكة هي مركز سيادة العرب، وكانت قبيلة قريش هي سيدة جميع قبائل العرب وسيدة الجزيرة كلها، لأن قريشاً سيدة مكة، ومكة فيها بيت الله الحرام، وكانت كل قبيلة من قبائل العرب يكون بعض من أبنائها في بطن سيادة قريش خلال الحج، وما دامت كل قبيلة تذهب إلى مكة فهي تطلب حماية قريش، ولم توجد قبيلة تعادي قريشاً أو تجرؤ على مهاجمتها؛ لأنها تعلم أنه سيجيء يوم تكون فيه تحت حماية قريش وتحت رحمتها حين الحج إلى بيت الله الحرام.

إذن فسيادة قريش نشأت من وجود البيت. ولو أن هذا البيت لم يكن موجوداً لكان مركز قريش كمركز أي قبيلة من العرب، ولو أن البيت قد هدم من أبرهة، لكانت سيادة قريش قد انتهت. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الفيل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1-5].

ثم تأتي بعدها مباشرة السورة الكريمة التي توضح لنا أن الله سبحانه وتعالى حين حفظ بيته وفتك بجيوش المعتدين فجعلهم كعصف مأكول، قد أكد هذه السيادة لقريش فيقول تبارك وتعالى في السورة التي سميت باسمها: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4].

إذن فالذي أعطى السيادة لقريش هو بيت الله الحرام. ولذلك تذهب قوافلهم بالتجارة لليمن والشام ولا يجرؤ أحد من القبائل أن يتعرض لها. ولو لم يكن بيت الله الحرام في مكة وقريش سادة مكة؛ لما كان لهم هذا الوضع المتميز والمكانة العالية، إذن فعز قريش في بيت الله الحرام، وأمنهم وسيادتهم في أنهم جالسون في راحة وتنتقل قوافلهم إلى الشام وإلى اليمن. ثم تعود محملة بالخير والربح وهم آمنون مطمئنون. وحين أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته كان ذلك الإعلان في مكة، وقد أعلنها صلى الله عليه وسلم في وجه الجبابرة وأقوياء الجزيرة العربية كلها.

ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدأ دعوته في قبيلة ضعيفة خارج مكة لقالوا: استضعفهم وغرر بهم، أو لقالوا يريدون به السيادة، أي أنهم كقبيلة مستضعفة لم يأخذوا رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمانا، ولكنهم أخذوها سلماً ليسودوا بها الجزيرة العربية. ولكن شاء الحق تبارك وتعالى أن يكون ميلاد الرسالة في مكة وأول من سمعها هم سادة قريش؛ لتأتي في مركز السيادة ويكون المراد بها هو الحق، وإعلاءه في وجه سادة الجزيرة العربية.

ثم كانت المعركة بين سادة قريش والإسلام وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه وحاولوا إيقاف الدعوة بكل الطرق وشتى الحيل. لكن هل انتصروا؟ ثم هل امتد الإسلام وانتشر من مكة؟. لا، بل كانت الهجرة إلى المدينة، ومن هناك امتد الإسلام.

إذن فقد بدأ الإسلام من مكان السيادة في الجزيرة العربية، ولكنه انتشر من مكان لا سيادة فيه، لماذا؟ لأن الإسلام لو انتشر من مكة لقالوا: قوم ألفوا السيادة على الناس، وتعصبوا لواحد منهم؛ ليمدوا سيادتهم من الجزيرة العربية إلى أماكن أخرى في العالم. ولكن النصر جاء من المدينة لتعلم الدنيا كلها: أن الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد، وهو الذي حقق النصر لمحمد، ولم يخلق العصبية لرسول الله أنه من قريش، أو أنه من قبيلة اعتادت سيادة الجزيرة العربية.

ويصنف الحق سبحانه وتعالى لنا المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهؤلاء منهم المهاجرون. ومنهم الأنصار، ومنهم جماعة مؤمنة لم يهاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم هاجروا بعد ذلك. ومنهم جماعة آمنوا ولم يهاجروا من مكة وبقوا فيها حتى الفتح.

إذن: هناك أربع طوائف: الذين هاجروا مع الرسول إلى المدينة، والأنصار الذين استقبلوهم وآووهم. وطائفة لم يهاجروا مع رسول الله ولكنهم هاجروا بعد ذلك، وطائفة بقيت في مكة حتى الفتح.

ويقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ...}.