بطرس دانيال يكتب: الكتاب خير جليس

مقالات الرأي



يوصى بولس الرسول قائلاً: «إن كان أحدٌ يظنُ أنه حكيم بينكم فى هذا الدهر، فَلْيَصر جاهلاً لكى يصير حكيماً» (1كورنثوس 18:3). هل التعليم والثقافة مع الإيمان والأخلاق تستطيع تغيير العالم إلى الأفضل؟ إذا أردنا جيلاً واعياً مُحبّاً لعائلته ووطنه، يجب أن نزرع فى الأبناء منذ الصغر حُبّ القراءة والثقافة كل حين. يُحكى أن شاباً التحق بالجامعة ليكمل تعليمه، فسأله والده بعدما أنهى العام الأول: «ما الذى تعرفه؟، هل تعلّمت أكثر من ذى قبل؟» أجاب الابن: «بالطبع أعرف الكثير». ثم سأله بعد الانتهاء من العام الثانى: «هل تعرف الآن أكثر مما عرفت فى الماضى؟»، فأجاب الشاب: «مما لا شك فيه لا، الآن أعرف أقل بكثير». فقال أبوه: «حسناً، أنت أفضل من العام الماضى»؛ ثم سأله بعدما أنهى العام الثالث: «ما الذى تعرفه الآن؟» فأجاب: «أظن أننى لا أعرف شيئاً، فقال والده: «لقد أصبت، لأنك الآن بدأت تستفيد ما دمت تقول أنك لا تعرف شيئاً». لأن المثقف الحقيقى هو الذى يشعر بالجهل كلما تعلّم وقرأ أكثر، لأن هذا هو باب المعرفة والحكمة. طوبى لأولئك الأشخاص الذين يستغلون وقتهم ليس فى الدراسة فحسب؛ بل فى تثقيف ذاتهم، لأن الكتاب الجيد يسمو بالروح ويرهف الشعور ويبعث الإعجاب، ويجلد الهمة. ما أسعد هؤلاء الذين يُغْرَمون بالدرس والقراءة البنّاءة، لأن معاشرة الكتب ينبوع يفيض عليهم بكل ما لذ وطاب للعقل والقلب والنفس. كما أن الكتاب ملجأ أمين إن بحثنا عنه، وسينقذنا من معاشرات سيئة، وهو أداة للعلم والتثقيف والحكمة، ونستطيع أن نلجأ إليه فى كل حين، ففى ساعة المرض سنجده خير مُلّطف لآلامنا وأوجاعنا، وفى شيخوختنا أجمل رفيق وسند، لأن المطالعة بعد العبادة لها أهمية خاصة وأعظم نعمة أنعم بها الله علينا، وتجعل حياة الإنسان رحلة ممتعة فى أرض الشقاء التى يعيش فيها، إذاً لا يجعل أى فرد منّا هذه الشعلة تنطفئ فى داخله، وكما يقول الفيلسوف والناقد Taine: «عندما أملأ رأسى بالمطالعة، فما تبقّى، ليس له أدنى أهمية فى اعتبارى. بهذا، أنا على يقين بأن الملل لن يصيبنى أبداً فى حياتى». ومما لا شك فيه أن الدول المتقدّمة والمتحضّرة، تهتم أولاً بمكتبات الأطفال، حتى تضع بين أيديهم قصصاً وحكايات شيّقة لتزرع فيهم الانتماء للوطن وحُب البطولة وكرم الأخلاق والكدّ والسعى إلى ما هو سامٍ، ونتيجة ذلك نجد الأطفال يحلمون ليل نهار بما يقرأونه، ويبتكرون فى كل شىء حتى فى ألعابهم ويصنعون جواً حافلاً بالبطولة والنبوغ، وعندما يصلون إلى سن البلوغ، يسعون لتحقيق كل ما كانوا يحلمون به، إذاً فمطالعة الكتب تمنحنا متعةً لا مثيل لها، كما أنها وسيلة مهمة لاكتشاف المواهب المدفونة فى كل شخص، فضلاً عن أنها تضع بين أيدينا، خبرة من سبقونا فى مختلف الميادين، وتمنحنا صُحبة ممتعة. فالكتاب الجيد خير دليل وصديق إن عرفنا كيف نختاره ونهضم ما بداخله، ونتعلّم أسمى ما تمخّضت عنه عقول الفلاسفة، وأفضل ما أتاه عظماء الرجال، وكما يقول Blanchaud: «الكتاب الصالح هو ناصح صادق، يثقفك دون أن يضجرك، وينبّهك إلى عيوبك دون أن يهينك، ويقوّمك دون أن يسيء إليك». إذاً فالثقافة هى النور الذى يبدد ظلمات الجهل عن العقول لنرى الحق والخير والجمال، والثقافة الحقة هى التى تنير العقول وتشدد الإرادة، كما أنها تساعد الإنسان على التحلّى بالإرادة للسيطرة على أمياله وأهوائه، وتُعَوّدنا على المثابرة للتحصيل والنجاح، وتساعدنا على الإصغاء وإعْمَال الفكر، علاوة على ذلك تعلّمنا التسامى بأفكارنا وعواطفنا ولا نتبع السطحية والتفاهة، كما تساعدنا على تقييم الآراء والأفكار حتى لا نصبح ذَنَباً للغير ولا ضحية لترويج الشائعات. فالثقافة تمنح الإنسان اعتناق الحق والسعى إلى الخير وتحقيق الجمال فى الروح قبل الجسد، وفى الأخلاق قبل المظاهر. وكما يقول السيد المسيح: « أنتم نور العالم» (متى 14:5)، هذا معناه أن كل واحدٍ منّا يجب عليه أن يشعّ بأفكاره وأقواله وتصرفاته، وعندما يفعل ذلك سيصبح مثالاً صالحاً يقتدى به الآخرون. إذاً فالكتاب هو قوّة جبارة، كالقنبلة الموقوتة، يجب أن تنفجر، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كما أن الكتاب حسبما يكون صالحاً أو فاسداً، يُنير أو يعمى، يسمو بالإنسان أو ينزل به إلى الحضيض، يشوّش أفكاره أو يمنحه الهدوء والسكينة. ونختم بكلمات سنيكا: «من يعيش بدون عون المطالعات الصالحة، هو ميت؛ هو مدفون حيّاً».