د. نصار عبدالله يكتب: طعن تاريخي "2"

مقالات الرأي



نواصل الحديث عن الطعن التاريخى الذى أصدرته محكمة النقض المصرية فى أوائل عهدها وذلك فى الطعن الذى تقدم به إليها كل من أحمد جعيدى عبدالحق (الشهير بالضرس جعيدى) وشريكه فى الجريمة المنسوبة إليه: حسن أحمد أبو عاشور (الشهير بحسونة)، واللذين اتهمتهما النيابة العامة بارتكاب جريمة قتل يوسف أفندى الشافعى مأمور مركز البدارى والشروع فى قتل فهيم أفندى نصيف الذى أصابته عيارات نارية من نفس البندقية التى استخدمها الطاعن الأول أحمد جعيدى فى الإجهاز على المأمور لكن إصابات فهيم أفندى نصيف لم تكن قاتلة فنجا بذلك من الموت، وكانت محكمة جنايات أسيوط قد أصدرت حكمها بمعاقبة المتهم الأول (الضرس) بالإعدام، ومعاقبة المتهم الثانى: (حسونة) بالأشغال الشاقة المؤبدة اللذين بادرا إلى الطعن فى الحكم أمام محكمة النقض فور صدوره حيث تقدّم الأستاذ مرقس فهمى أفندى محامى المتهم الأول بتقرير بأسباب طعنه فى 9 يوليه سنة 1932، فى حين لم يتقدم الأستاذ إبراهيم ممتاز أفندى محامى المتهم الثانى بأية أسباب لطعنه. وقد حضر الأستاذ مرقس فهمى أفندى جلسة المرافعة وترافع بما هو مدوّن بمحضرها.

وفى جلسة 5 ديسمبر 1932 وقبل انقضاء تسعة أشهر على واقعة الجريمة التى حدثت فى 19 مارس 1932 أصدرت محكمة النقض حكمها فى الطعن الذى قيد برقم 2421 سنة 2 القضائية برئاسة سعادة عبد العزيز فهمى باشا وحضور حضرات محمد لبيب عطية بك وزكى برزى بك ومحمد فهمى حسين بك وأحمد أمين بك. والذى جاء فيه أن بمراجعة الحكم المطعون فيه ومراجعة محاضر التحقيقات وكذلك ما ذكره محمد نصار بك الذى شهد أمام النيابة وأمام محكمة الجنايات أن الطاعنين قد سبق أن تعرضا لمعاملة قاسية من المأمور القتيل الجلسة وكانت هذه الشدّة فى معاملتهما سببا فى إذكاء حفيظتهما ضدّه فصمما على التربص له وقتله وأخذا يتحينان الفرص إلى أن كانت ليلة الحادثة وهما يعلمان من مراقبتهما للمأمور فى غدواته وروحاته أنه اعتاد غالباً أن يتوجه لزيارة مهندس الرى فى عمله مساءً والعودة من نفس الطريق الذى كمنا بالقرب منه حتى إذا مر عليهما فى ليلة الحادثة فاجأه أوّلهما بإطلاق النار عليه من البندقية التى أعدّها لهذا الغرض».وبما أن شهادة محمد نصار بك التى أشارت إليها المحكمة واعتمدتها ورد بها كما يؤخذ من محضر الجلسة: «أن المأمور المجنى عليه كان يطلب نوم الطاعنين بالمركز وفى نومهم كانت تحصل لهم إهانة من العساكر لسيرتهم الرديئة فتألموا وتأثروا من هذا ومن الإهانة». ولما سئل عن بيان هذه الإهانة قال: «الحاجات والإهانات اللى سمعناها جامدة». ولما سئل عما سمعه من ذلك قال: «سمعت أن المأمور يأمر بقص أشنابهم واللبد يقصها ويجيب لهم رشمة ليف ويعملها لهم زى لجام الجحش». ولما سئل عما كان يحصل بعد إلجامهم قال: «شوف الجحش يبرطع إزاى». وقال أيضاً إجابة على سؤال المحكمة: «كان يكلفهم أن يقولوا أنا مرة». ولما سئل قال على سبيل التأكيد: «حصل إنه دق العصى فى طى..». ولما سئل عن إهانات أخرى قال: «أى الشيء اللى يخليهم يرجعوا عن السرقات عمله وياهم». ولما كرر عليه السؤال قال: «هو فيه أزيد من دق العصى فى طى.؟!».

وبما أن هذه المعاملة التى أثبتت للمحكمة أن المجنى عليه كان يعامل الطاعنين بها هى إجرام فى إجرام، ومن وقائعها ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون بالأشغال الشاقة، وكلها من أشدّ المخازى إثارة للنفس واهتياجاً لها ودفعاً بها إلى الانتقام. كما ذكر الشاهد نصار بك الذى اعتمدت المحكمة شهادته، ولما كان هذان الطاعنان يتخوّفان من تكرار ارتكاب أمثال هذه المنكرات فى حقهما كما يقول وكيل أحمد جعيدى فى تقرير الأسباب وفى المرافعة الشفهية فلا شك أن مثلهما الذى أوذى واهتيج ظلماً وطغياناً والذى ينتظر أن يتجدّد إيقاع هذا الأذى الفظيع به - لا شك أنه إذا اتجهت نفسه إلى قتل معذبه فإنها تتجه إلى هذا الجرم موتورةً مما كان منزعجةً واجمةً مما سيكون، والنفس الموتورة المنزعجة هى نفس هائجة أبداً لا يدع انزعاجها سبيلاً لها إلى التصبر والسكون حتى يحكم العقل - هادئاً متزناً متروّياً -. ولا شك بناء على هذا أن لا محل للقول بسبق الإصرار إذ هذا الظرف يستلزم أن تكون النفس هادئة، وهو مالا يتفق مع حالهما، لكنه لا ينفى ثبوت الترصد وهو وحده كاف لتأييد الحكم، لهذا السبب فإن المحكمة تؤيد الحكم على مضض!!