د. رشا سمير تكتب: ربيع جابر.. ناسك الأدب العربي

مقالات الرأي



إنزوى في كهفه البعيد.. يتطلع على العالم من فوق قمة الجبل العالي ويبتسم في هدوء الناسك.. يحمل ريشة وقرطاس مسكونا بسحر المكان ليدون ويرسُم.. يرسُم صور بديعة لمدن لم يزورها وأحلام لم يحققها وطُرق لم يطأها بل وأشخاص لم يراهم.. يخرج من صومعته مع شروق الشمس ويعود عند المغيب حاملا في جعبته ألف حرف وألف حكاية.

تلك بالتحديد هي صورته التي رسمتها في خيالي وأنا أقرأ له.

إنه الروائي اللبناني المُبدع ربيع جابر.. الشاب الذي يبلغ من العمر 47 عاما.. والذي تخرج من الجامعة الأمريكية ببيروت حيث درس الفيزياء.. ثم قرر أن يتجه إلى الأدب، فأصدر أولى رواياته عام 1992 وهي رواية (سيد العتمة)، تلك الرواية التي تناولت لبنان إبان الإحتلال التركي.

ثم توالت أعماله الروائية، فهو يكتب ويكتب.. دون توقف ودون أحلام ودون النظر حتى إلى ما تحققه تلك الكتابات من نجاحات.. حتى وصل إجمالي إبداعه الروائي إلى 18 عمل روائي في حوالي 19 عام أي بمعدل إصدار جديد كل عام تقريبا!.

إلى أن صدرت له الرواية الأخيرة (طيور الهوليدي إن) عام 2011، ثم.

ثم إختفى عن الساحة!.

هل توارى؟ هل عاد إلى كهفه المسحور حيث تسكنه جنيات وسحرة الحكايات؟ هل هي إستراحة مُحارب؟ هل توقف ليلتقط أنفاسه وأفكاره من جديد؟

ألف سؤال طرق باب قلبي وعقلي وأنا أقرأ له..وقررت أن أبحث عن إجابات، أو بإختصار قررت أن أبحث عنه..


الوجه الآخر:

الحقيقة إن الروائيون في العالم كله يبحثون عن نفس الأشياء حتى لو تحت مسميات مختلفة..فهم يبحثون عن الأضواء وعن الجوائز وعن الفعاليات الثقافية وعن لقب (الأكثر مبيعا)..دون إختلاف بين عربي أو أعجمي بهذا الشأن..إلا هو!.

فهو يكتب ليحيا.. ويحيا ليكتب.

بدأت حكايتي مع ربيع جابر منذ فوز روايته (دروز بلغراد) بجائزة البوكر العربية عام 2012.. تلك الرواية التي كانت حيثيات فوزها الآتي: (العمل الأكثر تميزاً ولمعاناً واجتهاداً فاستحقت جائزة البوكر العربية لتصويرها القوي لهشاشة الوضع الإنساني من خلال اعادة خلق قراءة تاريخية ماضية في لغة عالية الحساسية).

ثم وقعت في يدي منذ شهور روايته المُبهرة (رحلة الغرناطي)..رأيت بعيني وأنا أقرأها تفاصيل شوارع غرناطة وأفريقيا وبلاد الشام عام 1901 وكأنني جزء من الحكاية أو وكأن الحكاية جزء مني.

ظللت أردد وأنا أصفق له بعيناي أثناء إلتهامي للسطور: " يا لك من راوي!".

كيف سكن تلك التفاصيل وكيف سكنته؟ كيف أحكم سيطرته على كل تفصيلة صغيرة كانت أو كبيرة؟.

وقررت أن أكتب عنه..أكتب عن عبقري السرد، لأُعرفه بجيل من القراء التعساء في بلادي الذين باتوا لا يعرفون عن الإبداع إلا كل ما هو ركيك بل وأحيانا ردئ!.. متصورين أن الأضواء والسوشيال ميديا وعدد الطبعات والتكريم هو المقياس الوحيد للنجاح.

وأنا اليوم أقول لهم: " أستميحكم عذرا يا أصدقائي، النجاح له وجه آخر".

رحلة الوصول إليه:

قررت أن أصل إليه لأكتب عنه، بحثت في قائمة كل أصدقائي الأدباء والصحفيين والناشرين اللبنانيين، الذين يعرفون مدى عشقي للبنان ولشعبه المثقف الراقي.

كلما سألت أحداهم عنه يأتيني نفس الرد:

" بالطبع قرأت لربيع جابر ولكني لا أعرفه شخصيا، فهو منطوي على نفسه وأصدقائه قليلون..لا تحاولي الوصول إليه..لن يجيبك، فهو لا يرد على الصحافة ولا على البرامج ولا حتى يحمل هاتف محمول!".

بحثت عن طريق محرك جوجل، فوجدت أخبار قليلة جدا، لدرجة أنني إندهشت عندما وجدت له صورة واحدة على المسرح وهو يتسلم جائزة البوكر، بلا تصريح أو حوار واحد!.

سرقني الفضول ليضعني فوق صفيح ساخن، وتصميم على أن أصل إليه.

أخيرا بعد عناء وعشرات التليفونات وصلت إلى ناشره الأستاذ حسن ياغي صاحب دار التنوير للنشر، وهو بالأدق المحرر الأدبي لربيع جابر ومن أصدقائه المقربين.

الحقيقة أن ياغي ناشر مثقف وواع، نهض بدار التنوير وأعادها على خارطة الأدب بقوة..أخبروني أنه الوحيد الذي يعرف جابر جيدا..تواصلت معه فتفاعل معي بكل أدب ورُقي، وتحمل أسئلتي الكثيرة بصدر رحب.

ياغي الناشر والصديق:

كان أول سؤال وجهته إليه:

" منذ حوالي ثماني سنوات لم يكتب ربيع جابر حرفا واحدا بعد أن كان ينشر رواية كل عام، فأين هو الآن من الساحة الأدبية؟".

رد: " لا يمكن لي ولا لأحد –على ما أظن–  أن يتكھن بأسباب انقطاعه عن الكتابة، وأنا عندما سألته عن السبب ضحك وقال: أنا أكتب لأستمتع بالكتابة، وأنا الأن أقرأ لأنني أستمتع بالقراءة، وھذا ما يھمني اليوم".


سألته: "كيف تراه كناشر مهم في الوطن العربي؟".

أجاب: "ربيع حكاء من الدرجة الأولى، كما وصفه المؤرخ الكبير كمال الصليبي بأنه (حكواتي بالفطرة)..ودعا إلى قراءة أعماله مرة تلو مرة، الدكتور كمال ألقى محاضرة في جامعة هارفارد عن ربيع بعنوان (كيف يكتب ربيع جابر التاريخ؟) ونشر عنه كتاب باللغة الإنجليزية، كما صنفه واحد من أهم كُتاب التاريخ".

سألت الأستاذ ياغي عن غموض شخصيته، قال مُعللا:

" إنه خياره، فھو شخص لا يطيق الأضواء أو المقابلات، لا أعرف أمورا شخصية عنه، فقط ما أعرفه أنه عاشق للكتابة والقراءة، ربما أكثر من الكتابة، ولديه مخزون عجيب، ومعرفة مدهشة بما يصدر من روايات وكتب مؤثرة، هو يقضي أكثر وقته في مكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت ليلتهم الكتب".

سألته عن علاقته به كناشر، وهل يتدخل في أعماله؟:

رد قائلا: " هذا سر بيني وبينه، لكن أقول لك أن ربيع جابر يحمل إلي رواياته مكتوبة بخط اليد، فأندهش وأنا أقرأ، كيف أن عملا من مئات الصفحات ليس فيه خطأ لغوي أو نحوي واحد".

قلت له: أخبرني عن كواليس جائزة البوكر؟ وهل قدم إليها بنفسه؟

رد: "بالطبع أراد التقدم لجائزة البوكر، فلا يمكنني تقديم الرواية إلى جائزة من دون موافقته، لكن في الوقت نفسه ھو لا يكتب أبدا بدافع الحصول على جوائز، ولا يتأثر إن حصل عليھا أو لم يحصل عليھا..لا شك عندي أن حصوله على جائزة محترمة يُفرحه، لكن إلى الحد الذي رأيناه عندما حصل على الجائزة..وقتها صعد إلى المسرح.. مشى بطريقة جانبية متجنيا أضواء الكاميرات..تسلم الجائزة ولم يقل سوى كلمات قليلة جدا، ثم مضى في نفس الليلة عائدا إلى منزله..حتى إنه لم يلتق مع القراء في صباح إفتتاح معرض ابوظبي كما يقتضي التقليد..ولا أجرى مقابلات مع صحف عالمية ترسل مندوبين عادة لتغطية الحدث، ولم نسمع  أنه ذهب في جولات لتقديم روايته".

إنتهى حواري معه بعد أن زادني فضول وإحترام لشخص لم أعرفه على الرغم من أنني أصبحت من مُدمني رواياته..واسمحوا لي أن ألقي الضوء على بعض منها.

يوسف الإنجليزي (1999):

يوسف..شاب صغير تلون شعره باللون الأبيض وهو في السابعة من عمره حين شاهد الثلج يهدم حجرة أخيه الأكبر، ليسقط سقفها عليه وعلى زوجته وتوأميه، منذ تلك اللحظة التي شاهد فيها يوسف الأجساد الأربعة ممددة أمامه بات ذاك المشهد هو زائره اليومي في أحلامه.

بين يوم وليلة تبدأ الحرب في الجبل لينتقل يوسف من جبل الدروز إلى بيروت وأخيرا إلى لندن.. هناك يتحول الدُرزي يوسف إبراهيم خاطر جابر إلى جوزيف مادير.

بقلمه الرشيق يصف ربيع جابر الحرب ويصف اللوحة المشطوبة الطرف، ويصف بائع البيض والبطاطس حنا يعقوب الذي يستدعيه ببراعة من بين صفحات رواية (دروز بلغراد) ليزج به في قصته الجديدة، ، حتى أنه يصف صوت الحذاء الذي يصدره وقع أقدام السيدة ذات الملاءة السوداء وهي تتمشى في سوق الصاغة فنسمعه بوضوح، خلف خطوات يوسف تبدأ الحكاية وتنتهي، ولا يفوت الكاتب أن يرسو بقلمه عند مذابح 1860 المتبادلة بين الدروز والمسيحين في الشرق العربي.

رحلة الغرناطي  (2002):

من أجمل روايات ربيع جابر على الإطلاق، فهي تدور حول أخوين في الأندلس، يضيع أحدهما في غابة خارج غرناطة ويقضي الآخر ما تبقى من سنوات عمره في البحث عنه، بعد سبع سنوات يجيئه رجل ليخبره أنه رأى تاجراً بلنسياً يشبه أخوه تماماً، فيبدأ الغرناطي رحلته بعد أن تجدد لديه الأمل، في رحلة ليست بمثابة رحلة بحث بقدر ما هي رحلة تصالح مع الذات والخلاص من عقدة خطيئة لم يرتكبها، لا يأخذنا ربيع في رحلة شيقة عبر إسبانبا فحسب بل نلهث ورائه في إيقاع سريع من شمال أفريقيا إلى بيت المقدس، ثم إلى أنطاكية.

حتى أن فصول الرواية هي لمحات سريعة خاطفة، مجرد صفحتين أو ثلاث بإيقاع سريع جعلني ألهث وراء الحدث، لا مجال فيها للحوار الطويل، مجرد جُمل قصيرة بعكس كل الكُتاب الذين يكتبون وأعينهم على تحويل الرواية إلى سيناريو..السرد في رواياته هو البطل الأعظم، أكاد أقسم أنني رأيت الأماكن وتظللت بظل الأشجار ودخلت البيوت القديمة وراء قلمه العذب.


دروز بلغراد (2010):

الرواية هي صورة بديعة لكاتب مهموم بقضايا وطنه وأحلام الدروز في بيروت، الرواية تبدأ بعد الحرب الأهلية في جبل لبنان، حيث يتم نفي عدد من المقاتلين الدروز بالبحر إلى قلعة بلغراد عند حدود الامبراطورية العثمانية ليأخذوا معهم رجل مسيحي من بيروت يُدعى حنا يعقوب بدلا من شخص أطلقوا سراحه بعد أن دفع والده رشوة للضابط العثماني، حنا يعقوب هو بائع بيض وضعه القدر في ساعة نحس على أرصفة المرفأ في بلاد البلقان المملوءة بالفتن.

تمتد رحلة حنا يعقوب لاثنتي عشرةَ سنة غيرت مجرى حياته، وأعادت تكوينه من جديد، حيث يتحول من مسيحي فقير إلى مسلم فقير يصلي مع الحجاج الراحلين إلى مكة في رحلة عودته إلى الوطن.

كلمة ورسالة:

حين قررت أن أكتب عن ربيع جابر لم يكن في نيتي النقد ولا الوصف ولا حتى العرض، بل كان في نيتي الإقتراب أكثر من هذا الناسك الذي يكتب بمعزل عن الضوء، الروائي الذي بكل صدق يمكن تصنيفه بجوار كبار الروائيين العالميين أمثال أورهان باموك وباولو كويلو وإيزابيل اللندي وتولستوي.

حين قررت أن أكتب عن المبدع ربيع جابر، كانت رسالتي هي أن أدعوه لإستئناف الكتابة من جديد في رسالة تلغرافية قصيرة مفادها: (إشتقنا إليك).