"أكثر من حياة داخل المخيم".. مُبادرات تطوعية تعطي فسحة أمل للاجئين في لبنان

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


من يبحث في ذاكرة أي لاجئ عن اللحظات الأخيرة التي تترسب في عقله ووعيه، سيجد مشهدًا ثابتًا لا يتغير، وهو سردية مشهد الرحيل، المتمثل في إعداد الحقائب وتحزيم الأمتعة، والخروج على عجل قبل أن يداهمه الموت، إن لم يكن بالرصاص الطائش فسيكون بالفقر الذي لا يكف شبحه عن الفتك بهم، وينتهي بهم الحال إما غرقى على شواطئ البحر، أو واقفين على الحدود لساعات يقتلهم الانتظار؛ قبل إعطائهم تأشيرة الدخول.

التعايش مع تلك التفاصيل المُحملة برائحة القتل والدمار ليس سهلًا على اللاجئين، حيث يتأقلمون معها في حياة أقسى وأصعب في كثير من الأحيان، تزدحم ذاكرتهم بالتفاصيل المؤلمة والثقيلة، يحاولون معها جاهدين في أن يقيموا حياة موازية لحياتهم القديمة، وهو ما يتأتى لهم من خلال المراكز والجمعيات الحقوقية، التي تسعى إلى إدخالهم ضمن النسيج المجتمعي، وتعطيهم نافذة جديدة يستطيعون من خلالها أن يروا العالم بعين الإنسان الطبيعي وليس اللاجئ.






"مركز الجنى"، أحد أهم المنظمات التي تعني بقضايا اللاجئين في لبنان، وتعمل على النهوض بأوضاعهم المعرفية والحياتية، حيث تستضيف الدولة على أراضيها أكثر من مليون لاجئ سوري، و20 ألف من أصول أخرى، بالإضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين الذين يقعون تحت ولاية الأونروا؛ وهي أيضًا وكالة غوث وتنمية بشرية تعمل على تقديم الدعم والحماية وكسب التأييد لحوالي 4.7 مليون لاجئ فلسطيني مسجلين لديها في الأردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية وقطاع غزة، إلى أن يتم إيجاد حل لمعاناتهم.








في الأيام الماضية كانت متطوعو مركز الجنى، يجوبون شوارع مخيم برج البراجنة، الذي يضم خليطًا من لاجئين فلطسينيين وسوريين، من أجل إقامة معرض "واقع في صورة"، لما يقرب من 80 طالب وطالبة تابعين لمدارس الأونروا، من أجل تلقينهم مبادئ التصوير بالموبايل باعتماد طرق بسيطة وسهلة، كي يكونوا قادرين على التقاط الصور والتفاصيل بشكل مبدع ومحترف، وإعطائهم أيضًا مهارات فنية تساهم في تعزيز الثقة داخلهم، وبناء مهارات التواصل والقيادة "لأنهم كانوا شغالين في مجموعات عمل مشتركة"، بحسب ما  يقول هشام كايد، المخرج السينمائي والناشط بالمركز، لـ"الفجر".






القائمون على تنفيذ المبادرة بالمركز، تعمدوا أن تتم فعالياته من داخل المخيم، بحيث لا تقتصر أنشطته على الأطفال فحسب، بل يكون ميدانًا مفتوحًا للجميع يخرجون فيه إبداعاتهم الكامنة ويجعلونها على المشاع، وقد صدقت هواجسهم فيما بعد، فقد قام العديد من الشباب بعمل مخطوطات على الجدران يصورون بها واقع الحياة في المخيم، كما تكاتفت السيدات في عمل معرض للمأكولات الفلسطينية والسورية، وأخريات قمن بتزيين الحي، وسط أجواء أعادت ضخ الحب والود في قلوب الجميع من جديد "المعرض كمان انتقل من مكان لمكان بحيث يوصل رسالته"، وهو ما يسعى إليه المخرج السينمائي رفقة أصدقائه، بهدف أن تُعمم تلك الأنشطة على كل مخيمات اللاجئين في لبنان.






ينحدر اهتمام مركز الجنى بمبادرة واقع في صورة، من إيمانهم بمكانة الصورة وما يمكن أن تساهم به في توثيق تجربة اللجوء وما تحويه من أحداث تضطرم لها مشاعر اللاجئين "علشان هيك لابد أن تكون من خلال الأشخاص أنفسهم"، نظرًا لأن معظم من تناولوا قضايا اللجوء هم أشخاص عايشوا تجارب مغايرة، ولا يمكن أن يدركوا الأحاسيس الحقيقة التي تستبد بقلوب قاطني المخيم، كما أنهم في بعض الأحيان يكونوا تابعين لجهات وأحزاب، فيستغلون الموقف ويتاجرون بهذه القضايا من أجل تطويعها لمصالحهم الشخصية.







يعطي هشام كايد للمبادرة بعدًا آخر أكثر رهافة، فيقول إن الفعالية تستمد قوتها وثقلها؛ من الأطفال الذين يشاركون في كتابة التاريخ الحي، وحبس ما يعتصرهم من أحداث في صورة "لأنه فيه لحظات عم بتمر مهمة"، سواء على مستوى المخيم أو حتى العالم، وبالتالي فإن الصورة تتشكل في وعيه على صورة سلاح قوى ورادع لحفظ الذاكرة الجمعية للأشخاص، كذلك تحولها إلى مادة تفاعلية يعمل على بقائها الأطفال والشباب، وهي السياسة التي يتكئون عليها، حيث يطلبون من الصغار أبحاث، تجبرهم أن يخالطوا الأشخاص الأكبر سنًا، وبالتالي يتشاركون معهم الخبرات الحياتية، وينهلون منهم التاريخ المطوي في العقول.


منذ أن تأسس مركز الجنى عام 1990، وهو يعمل على النهوض بأوضاع العديد من الفئات في لبنان "سواء أطفال أو شباب وحتى كبار السن"، فيما تتضافر جهودهم مع العديد من المنظمات والمؤسسات الأهلية الأخرى، من أجل توسيع رقعة الدعم كي يصل لمستحقيه سواء على المستوى التعليمي أو الحياتي، كما يمتلك مسرحًا كبيرًا، يمكّنه من إقامة العديد من المهرجانات الفلسطينية المتنوعة، التي يسعى فيها اللاجئون إلى إحياء تراث وطنهم "كمان عم بنتعاون مع منظمة اليونيسيف في تنمية مهارات الشباب وتعزيز دورهم الاجتماعي"، وبشراكة الأنروا ودعم من صندوق مدد التابع للاتحاد الأوروبي.






يؤمن القائمون على المركز بأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن ذاكرته، ومهما طال به الشتات وأقصاه المنفى، يظل يقتات على الماضي، يتحين الفرص من أجل العودة، إن لم يكن بالجسد يكون برواية الحكاية وحفظها على جدار الزمن كي لا ينساها الصغار، لذا يعمل متطوعو الجنى على حفظ الذاكرة الشفهية للأشخاص، من خلال إقامة جلسات للحكي، التي يستدعون فيها الأحداث المؤلمة والصعبة المحفورة في الوجدان الفلسطيني، ويلتقطون منهم التفاصيل التي لم تطوها الأيام، ثم يتم إدراجها في أرشيف مُصور أو مسموع "يمكن لأي أحد الإطلاع عليه"، وهو ما أصبح متاحًا للجميع عبر المنصة الإعلامية التي أطلقها المركز مؤخرًا.

يعتبر كايد أن المبادرات التي يقدمها المركز بمثابة فسحة أمل للاجئين، الذي يعانون من التهميش والتجاهل الكبير من المجتمع الدولي، وإسقاط من حسابات العديد من المنظمات الحقوقية، لذا يحاولون من خلالها أن يقيموا جسور التواصل بين أهالي المخيم وبين العالم الخارجي، حتى يقدموا بأنفسهم صورة عن واقع المخيمات في لبنان وكل دول العالم.







تواجه المخرج السينمائي ورفاقه داخل المركز، العديد من الصعوبات والمعوقات، ليس على مستوى التعامل المباشر مع اللاجئ الذي يملك حساسية كبيرة تجاه الأشخاص الآخرين، تجلعه يحجم عن سرد حكايته وما يكتنفه من مشاعر أمام أي أحد "هاي بتاخد وقت بتحاول تبني ثقة بينك وبينه"، وهو ما يستلزم وقتًا طويلًا يعوضون به تلك الفروق، كذلك يتعرضون لتحديات أخرى أكثر إرهاقًا تتمثل في توفير الدعم المادي اللازم، نظرًا لأن معظم المتبرعين ينصب اهتمامهم أكثر على الطعام والشراب "دا عم بيخلي دعم مشاريع الثقافة شحيح"، وهو ما يتجاوزوه بزيادة أعداد المتطوعين. بالإضافة أيضًا إلى أنهم يواجهون بيروقراطية المصالح الحكومية، لان الأنشطة تتطلب موافقة من الأجهزة الإدارية والأمنية "وبتكون فيه شروط وتعقيدات".