"لازم حبايبنا يدوقوا سمكنا".. صيادو بورسعيد يودعون البحر قبل طلة الشتاء بمجاملة المصيفين

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


وَهجَت الشمس، وفردت أشعتها لتتسلل من خلال ثقوب شباك الصيد، إلى أيد محمود عمر، مما أشحذ هِمته، مَصيح على زملائه، كي يصطفوا على بعد مائة متر من إحدى شواطىء بورسعيد، ليطرحوا شباكهم في عرض البحر، الجميع تأهب لحصد خيرات الدورة الأولى، يدعمهم الريس الذي يشيد بخبرته باقي الصيادين المتجمعين حوله "الهمة يا رجالة.. اليوم مش عادي هنودع الشط ست شهور.. ولازم المصيفين وحبايبنا يدوقوا سمكنا قبل ما يدخل الشتا"، والذي يتخلله ركود موسمي للصيد بسبب أحوال الطقس.







تسبق يد صاحب السبعون عامًا، الذي تجسد ملامحه السمراء خبرته ورحلته مع البحر، أيادي الصيادين، وكأنه في مُقتبل العمر، لم يُبالي لشروط اقتسام المحصول وعدد مستحقيه، شاخصًا بصره طيلة الوقت صوب الشبكة الصغيرة، آملاً منذ استيقاظه أن يرزقه البحر بوفير من السمك، كي يستطيع أن يجامل محبيه، ويبيع ما تبقى منه فهم يعتاشون من هذا المورد فقط، ولا يمتلك عملاً آخر منذ سِتين سنة "اتولدت لاقيت نفسي في البحر بين شباك السمك.. مهنة أجدادي وكان لازم أتعلمها"، ولكنه لم يفضل أن يورثها أبناؤه، حتى أصر على تعليمهم حتى تخرج نجله الأكبر من كلية الصيدلة، وابنته الوسطى حاصلة على بكالوريس تجارة، أما الصغرى التحقت بكلية الأداب. وبالرغم من ذلك لم يفكر الريس عمر أن يترك البحر "البحر مش رزق بس.. برمي همومي وتعبي مع الشبك فيه.. ومعاه لحد الموت". 






تعجج أيضًا محمد العيسوي، إلى اللَّه بالدعاءِ، بأن تغمر السعادة قلوب الصيادين، والمصطافين، لاسيما بعدما لاحظ الجميع على الشط يدعمونهم ببعض الكلمات "ربنا يكرمكم"، في مشهد يجسد كرم أهالي المدينة الساحلية، التي تُلقب بـ "الباسلة"، فبرغم من ضيق حالتهم الاقتصادية، متناسيًا خلِج عظام ظهره، من ثقل الشباك عند القائها بالبحر. يرفع قبعته البالية المصنعة من "الخوص"، بين الحين والآخر، ليستكمل مهامه برفقة زملائه الست، يقاطعه شقيقه الذي يقف على يساره "شد بسرعة يا أبو أحمد"، يتجاوب معه الرجل الستيني، الذي يعمل في مهنة الصيد منذ الخمس سنوات من عمره، يشد بكل ما أُتي من قوة حتى ظهرت عروق جبهته بارزة "كله يهون علشان خاطر أحفادي.. والناس الطيبة اللي بتدعلنا على الشط من صباحية ربنا"، يقولها بصوت يملؤه الحنين للبحر الذي يودعه قبل قدوم فصل الشتاء.






حدا الموج بأقدم الصيادين، إلى داخل البحر، ليغير موقعه فجأة، يسنده ابن عمومته، والذي يعمل بأحد مطاعم الأسماك المجاورة لشاطىء الجميل بالمحافظة، في فصل الشتاء "بنظف سمك من أول نوفمبر لحد 15 إبريل"، مرجعًا ذلك بسبب نوة "المكنسة الصغرى"، التي تهب في منتصف نوفمبر- وقد عرفت بهذا الاسم لشدة الرياح بها حيث تهب رياح شمالية غربية "تكنس" البحر نسبة إلى التيارات البحرية الشديدة التي يشهدها البحر أثناء تلك النوة- "وأهو فترة وتعدي"، برغم من صعوبة المدة، لاسيما وأن نجله الأكبر لدية خمس أبناء ويعمل بائع خردوات على الشط، ولا يستطيع توفير احتياجات أسرته "بساعده كمان مع أخواته الأربعة.. وربنا بيدبرها من عنده".






علا الشبك يصعد ويهبط، يحاول الصيادين الإلمام به، كي يحتفظون بأكثر عدد ممكن من الأسماك، استمر المشهد على ما هو عليه لدقائق، يتصبب حافظ السيد، عرقًا شحب لون وجهه، ولكنه لم يتوانَ، إلا عندما أخذ مكانه أحد زملائه "كفايا عليك كده يا ريس أنت من 5 الفجر وما ارتحتش"، ليقف على بعد أمتار ويقودهم ببعض الكلمات التحفيزية، تصدح رنينها مع انتفاخ الشبكة، التي تبلغ طولها ما يقرب من ثلاثين متر. ويقسم رزقها بعد بيع المحصول على كل من أصحاب "الغزل والفلوكة نصف المكسب واحنا النصف".






يرفع أذان الظهر، تنتهي الدورة الأولى بوفير من الأسماك، لتبدل تعب الريس إبراهيم "جري السمك في الشبكة بيجدد الدم في عرقونا"، يقولها الرجل الخمسيني ويده تقلب بالسمك، مُناديًا على رفقائه لجمعه، وتعبئته وتوريده لتجار سوق السمك،  للشروع في الدورة الثانية، آملاً أن تأتي ثمارها كالسابقة "رزقها برضو يسد كام يوم معانا.. ده لو فضل"، معللاً ذلك بأن ابنته الصغرى مريضة "ربو"، وأدويتها غالية الثمن، وبحاجة لشرائها كل أسبوعين، مشيرًا إلى انه لايعمل سوى بالبحر، وبفصل الشتاء يقبع بالمنزل، ويساعده في المصاريف من وقت لآخر نجله الأكبر- البالغ من العمر (35 ربيعًا)-، مع معاش التكافل والكرامة "الحمدلله بتعدي وربنا ما بينساش حد"، محاولاً العمل في بعض الأحيان في أسواق السمك "بساعد عمال الشوي.. وأهي دي عشتنا علمت منهم البنت وجوزتها وجوزت ولادي الشباب من الصيد".






أربع دورات كانت حصاد يومًا هادئًا وعلى غير العادة، ودّع فيه الأقارب الستة البحر، بإهداء السمك للمصطفين، الذين حرصوا على تواجدهم منذ الصباح الباكر مع الصيادين، ينتظرون خروجه مثلهم، ليسود الشاطىء البهجة، خاصة أن بعض الأهالي كانوا يتأهبون لشرئه، وباستفسارهم عن أسعاره، ابتسم الريس إبراهيم، ويده تفرد الشبكة "ألف هنا على قلوبكم.. أنتم ضيوفنا والبورسعيدية معروفين بالكرم".