فى ذكرى جمال الـ49.. حكايات من دفتر الشرف

مقالات الرأي



عبدالناصر رفض رفع أسعار الأرز والزيت والسكر 3 مليمات

أهدى عمال الوادى الجديد مولدًا كهربائيًا لسماع حفلة الست

دفع مصروفات أبناء المعتقلين السياسيين ..وبعد وفاته تحول معارضوه إلى أكبر المدافعين عن إنجازاته رغم سجنهم


حكاية شعب.. هى واحدة من أجمل الأغانى الوطنية المعبرة عن تجربة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، والذى يمر هذا الأسبوع 49 عاما على رحيله المفاجئ والمفجع عن 52 عاما. وعلى غرار الأغنية التى تؤرخ لملحمة بناء السد، سأحكى حكايات من دفتر الشرف لجمال عبدالناصر..حكايات تكثف أهم انحيازاته الشخصية والسياسية والإنسانية. حكايات لأبوخالد نوارة مصر. الرجل الذى عاش ومات بالمعنى الحرفى فداء لأمته العربية، وكان المصريون فى قلبه قبل عقله. الرئيس جمال عبدالناصر الذى نقل مصر من الفن للصناعة مرورا بالتعليم والصحة إلى عصر آخر ومستوى آخر. الزعيم الذى آمن بحق المصريين فى الفن والثقافة والتعليم والعلاج والسكن لأهم حقوق الإنسان.

1- أزمة الـ3 مليمات

كان عبدالناصر يدرك أن ملايين المصريين عانوا من فقر وعوز لسنوات أو بالأحرى لأجيال، ولذلك كان حرصه على ألا يزيد عليهم الهم أو العبء حاسما. اجتمع مجلس الوزراء فى أحد أعوام حكمه لمناقشة الموازنة العامة للدولة. وكانت وزارة الخزانة (المالية) مقترحة إجراء رفع أسعار بعض المواد الغذائية وذلك لخفض عجز الموازنة، وهذا إجراء اقتصادى عادى، وفوجئ عبدالناصر أن المالية اختارت أن ترفع سعر الزيت 3 مليمات أو 5 مليمات، فاعترض الزعيم الراحل على اختيار الزيت. وقال إن الستات فى البيوت لما تفكر تطبخ، بتقلى بطاطس أو باذنجان.وأكمل بحسم: ما أقدرش أرفع سعر الزيت. وكان الاقتراح الثانى رفع سعر الأرز، فرفض عبدالناصر لأن الست المصرية عندما لا تجد أى شىء تطبخه لغذاء أولادها وزوجها تطبخ أرز (حاف). ولم يجد وزير المالية وكان وقتها زكريا محيى الدين حلا غير حل واحد. قال زكريا: خلاص ياريس مفيش حل غير أننا نرفع سعر السكر. وهنا ضحك الزعيم وقال لزكريا محيى الدين: انت ابن ذوات وما تعرفش الفلاحين. الفلاح عندنا يتغدى فى غيطه جبنة قديمة وبصل، ويحرقوا صدره يكبس بكوباية شاى نصها سكر. وانتهى الاجتماع برفض عبدالناصر المساس بكل المواد الغذائية، واستمرت الحكومة فى بحثها لسد عجز الموازنة من مصادر أخرى.

2- أغانى هدية

لم يكتف جمال عبدالناصر ببناء السد العالى أو مئات المصانع والمدارس والجامعات الإقليمية.

بل بنى المسارح وأكاديمية الفنون وأطلق فرق للأوبرا والموسيقى العربية والأجنبية والبالية والتليفزيون، ودعم فرق الفنون الشعبية والفرق المسرحية المتنوعة، وأنشأ مؤسسة السينما التى قدمت عددا من أهم الأفلام العربية، وأطلق عبدالناصر سلاسل الألف كتاب الأولى والثانية بأسعار شبه رمزية.

وشهدت فترة حكمه نهضة ثقافية غير مسبوقة حتى بشهادة ألد أعدائه، فى الحقيقة لم يكن إيمان واهتمام عبدالناصر بالفنون والثقافة سعيا لمجد شخصى أو إدراكا لأهمية الفن والثقافة الراقية فحسب، ولكن عبدالناصر كان يؤمن إيمانا راسخا بأن الفنون والثقافة حق من حقوق الإنسان، مثل حق المصرى فى الأكل والتعليم والسكن اللائق. وهذه الحكاية تكفى وتكشف هذا الإيمان. فقد أنشأ عبدالناصر محافظة الوادى الجديد، وقدم إليها مهاجرون من محافظات الصعيد خاصة أسيوط، وكانت الحكومة تقدم لكل قادم للمحافظة شقة بإيجار رمزى وقامت الحكومة ببناء ناديين أحدهما للعمال وأسرهم، والآخر للمهندسين وأصحاب المؤهلات العليا وأسرهم.. واشتكى كل هؤلاء للمحافظة ثم للوزارة المختصة ثم إلى رئاسة الحكومة. وكانت الشكوى من عدم وجود مولد كهربائى فى الناديين حتى يستمعوا مثل كل المصريين والعرب إلى حفلات الست أم كلثوم. ولم ترد أى جهة من الجهات الثلاث على الشكوى، أغلب الظن أنهم رأوا فى هذا الطلب تزيدا من العمال أو «دلع» منهم. وعندما أصيب العاملون بالوادى باليأس من هذه الجهات، قرروا أن يرفعوا شكاوهم للرئيس جمال عبدالناصر. وبالفعل وصلت الشكوى للزعيم، فتفاعل معها ومع حقهم فى الاستمتاع بالست. وقد غضب الرئيس من المحافظ لتجاهل طلبهم. وأمر عبدالناصر بشراء المولد الكهربائى من ماله الخاص. وذلك تقديرا لهؤلاء المصريين الذين تحمسوا لبناء مجتمع جديد بعيدا عن أرضهم وأهاليهم. وبعد أكثر من ثلاثين عاما من هذه الواقعة زرت الوادى الجديد. وقد تأثرت جدا بالمجتمع الهادئ الجديد وذلك رغم توقف البناء والمشروعات بالمحافظة بوفاة عبدالناصر. وهناك اكتشفت أن الشباب الفقير الذى سافر للعمل والإقامة بالمحافظة منذ سنوات بعيدة أصبح يمتلك أراضى زراعية وفيللات بأموال كبيرة، لأن عبدالناصر لم يكتف بالمنزل فقط لتحفيز الشباب على التوطين فى الوادى الجديد، ولكنه أمر بتوزيع أرض زراعية على العاملين الأوائل بالمحافظة. وقد رد بعض هؤلاء الأهالى الجميل للرئيس عبدالناصر فاحتفظوا بالمولد الكهربائى الذى تبرع به لهم كشهادة حية على عشقه للمصريين.

3- أهالى المساجين

لاشك أن الأحداث والظروف السياسية التى أحاطت بثورة 23 يوليو أدت إلى ارتفاع وتنوع أعداد السجناء السياسيين. فقد أدانت محكمة الثورة عددا من السياسيين وقيادات أحزاب ما قبل الثورة وكان هناك سجناء من أهل اليسار وإخوان، ولكن فى جميع الحالات فإن جمال عبدالناصر كان يفرق بشكل حاسم بين التهم أو بالأحرى الأحكام التى حصل عليها الآباء من ناحية، وبين الحقوق الخاصة بأسرهم كمواطنين مصريين. وكشفت الأوراق الخاصة بخط يد الزعيم التى حققتها ابنته الدكتورة هدى عن الكثير فى هذا الملف. فلا يكاد يخلو يوم أو بالأحرى ورقة من أوراقه من ملاحظات خاصة بأسر السجناء. مرة دفع مصروفات ابن أحدهم، ومرة أخرى علاج أحد أفراد الأسرة، أو توفير سكن لأسرة أحد السجناء. وهكذا فإن عبدالناصر كان يؤمن بحق كل مصرى فى التعليم والعلاج والسكن بوصفها حقوق أولية أو بالأحرى الحد الأدنى من حقوق المصريين.

4- لغز اليسار

وربما تفك هذه الحكايات، وهى مجرد عينة بسيطة، لغز أهل اليسار. فمعظم أهل اليسار ممن سجنوا فترات فى حكم الرئيس جمال عبدالناصر خرجوا من السجن وأيدوا عبدالناصر حتى بعد وفاته، بل إن هؤلاء اليساريين تحولوا إلى أهم المدافعين عن عبدالناصر وسياسياته فى عهد السادات. فقد فوجئ أهل اليسار بكل الإنجازات التى قدمها عبدالناصر للطبقة الوسطى وللعمال وخاصة قوانين المعاشات والعمل التى وصفت فى الأمم المتحدة بأنها الأفضل للعمال. فوجئ أهل اليسار بإقرار مجانية التعليم، بمراكز الشباب، وبالخدمات التى تقدم للعمال والموظفين من علاج وترفيه وتوفير مصايف بأسعار رمزية لهم. فوجئ بعدد الجامعات والمصانع والمدارس التى أنشئت فى عهد عبدالناصر. فأدركوا أنهم أخطأوا فى معارضته ومحاوله الضغط عليه سياسيا. لأن عبدالناصر كان أكثر إيمانا وإخلاصا للطبقة العاملة والكادحة والفقراء من كل أهل اليسار. ولذلك نسوا سنوات السجن واعتبروا عبدالناصر الزعيم التاريخى لأنه حقق للمصريين كل ما كانوا ينادون أو بالأحرى يناضلون من أجله. وكان هذا الموقف يضايق خصوم عبدالناصر وتجربته أشد الضيق. فقد حاولوا استدراك أهل اليسار ممن تعرضوا للسجن للهجوم على عبدالناصر، إلا أنهم فوجئوا بمعظم أهل اليسار إن لم يكن جميعهم يصفون عبدالناصر بالزعيم التاريخى وصاحب أهم وأفضل تجربة حكم انحازت للفقراء وللطبقة العاملة والوسطى. تجربة آمنت بأن الاقتصاد والسياسة فى خدمة المواطن المصرى، وليس العكس. تجربة أدركت حجم الحمل الذى أتعب المصريين طوال سنوات، فحاولت تجربة عبدالناصر تعويضهم ببعض الحقوق الأساسية.