د. رشا سمير تكتب: فى عشق صاحبة الجلالة

مقالات الرأي



فى ندوة كان ضيفها الكاتب الصحفى حلمى النمنم ضمن فعاليات صالون إحسان عبد القدوس الثقافى الذى أتشرف بإدارته، صرح قائلا:» أرثى لحال الصحافة اليوم وأتمنى أن تتعافى لأنها فى أسوأ حالاتها منذ عقود طويلة!».

أستوقفتنى الكلمة وكأنه أصاب الهدف بسهم جارح.. هل هو على حق؟ وماذا تعنى كلماته؟

الحقيقة أن الصحافة فى مصر وصلت بالفعل إلى حالة المريض الراقد على جهاز التنفس الصناعى، فلا هو يتنفس بمُفرده ولا هو ميت..

وأعود إلى الوراء حيث صحافة الكبار، مصطفى أمين وعلى أمين.. صحافة روزاليوسف وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ..

أعود إلى حيث الناس كانت تنتظر صدور الجريدة الورقية فى الصباح الباكر لتلتقفها وتبحث عن الخبر لتصدقه.. نعم.. لتصدقه!

كان للصحافة هيبة ومصداقية.. كانت الصحافة مدرسة وتلاميذ استطاعوا أن يصنعوا الخبر ويلتقطون الحدث المختلف من بين السطور بحرفية شديدة..

إذن تعلم الصغار من الكبار، فكانت مؤسسة روزاليوسف على سبيل المثال مدرسة صحفية خرجت كبار الصحفيين..

لكن وأين تقف الصحافة اليوم؟

الصحفى اليوم لم تعد مهنته الصحافة الورقية بقدر ما أصبح يبحث عن السبوبة، فظهر نوعية الصحفى الذى لقبه أحد رجال الأعمال أمامى بأنه (صحفى الساندويتش)!..

هذا بالقطع لا يبرئ كل الصحفيين القدامى لأن الصور تتكرر بشكل أو بآخر ولكن..

عندما تصبح الأغلبية بهذا الشكل، هنا يجب أن يدق ناقوس الخطر..

الصحفى الشاب لم يعد يدقق فى مصدر الخبر، فهو يسمع جملة من شخص ما وقبل أن يتحقق منها أو حتى يسمع ما يأتى وراءها، يبنى عليها حوارا وأشخاصا وحكايات لم تحدث.. فظهرت المواضيع المفبركة بسخف.

قد حدث معى أنا شخصيا كروائية أن قمت بعمل أحاديث مع صحفى ما، لأجده قد حور الحوار أو فرغه دون أن يستمع جيدا، فكتب أشياء لم تحدث وكرر ما التقطه من أحاديث سابقة لى وكأنه يقدم للقارئ طبخة باردة ماسخة!

إذن أصبح الواقع هو لقطة من هنا، على نُص خبر من هناك، على كلمتين من خياله.. ليخرج الموضوع وكأنه طفلا مشوه أو مبتور.

الواقع أن مهنة الصحافة مثلها مثل باقى المهن تفتقر إلى أصحاب الضمائر والحرفية.. التعليم الذى أصبح بعافية لم يعلم الشباب فى المدارس طرق البحث العلمى والتفكير المرتب والتعامل فى مجموعات وروح الفريق..

ألمس هذه الفجوة وبشدة من خلال تعاملى مع بعض الصحفيين من خلال عملى كروائية لأجد حوارات على لسانى لم أقلها وأخبارا لم تحدث، فما بالك بأهل الفن والسياسة!

الخيال مطلوب طبعا فى العمل الصحفى ولكن فى التحقيق الصحفى لا مجال له..

من وجهة نظرى أن الأعداد المهولة التى تتخرج من الجامعات كل يوم فى كل المجالات بدءا بكليات الطب وحتى المعاهد الفنية، طلاب لم يعد لهم أماكن سوى على الكافيتريات أمام المدرجات، واكتظ بهم سوق العمل حتى فاضوا ليصبح مقدمو الخدمة أكثر عددا من متلقيها.. وهى الصورة الأكبر حزنا فى كليات الطب التى أتمنى أن تتروى قليلا فى أعداد المقبولين بها لأن الأطباء أصبحوا فى مقولة أخرى (طبيب لكل مواطن)!.

كما أن الحالة الاقتصادية فرضت واقعا أليما على أصحاب كل المهن.. فالولاء لمن سيدفع أكثر وهى الحالة التى أعذر فيها الكثيرين.. لم يعد صاحب القلم الذى يعمل بنصف عقل وربع تركيز يبحث عن مكان يسطع فيه ولا حتى مكان يتيح له النجومية الصحفية بقدر ما يبحث عن حساب بنكى وتأمين طبي! وهل نلومه؟!..

سمعت من أحد أساتذتى الصحفيين الكبار أن مكتبه كان الشارع منذ تخرجه، يبحث عن الخبر ولو كان على ظهر بعوضة ويتعلم صياغته من أساتذته وحين يخطئ يعتذر ويتحمل تبعيات الخطأ.. لم يكن فى جيبه أحيانا ثمن الساندويتش ولكن فى عقله بقى الحُلم، فكانت عينه ترنو صوب كُرسى رئيس تحرير جريدته وليس على سيارته الفارهة!.. كان ينتظر خروج العدد الورقى للجريدة ليقرأ اسمه فى ذيل التحقيق الذى قضى الليالى يعمل عليه وكأنه طفله يولد بين يديه.. لم يُمله أحد، ولم يخش أحدا ولم يعمل لحساب أحد إلا صاحبة الجلالة.. نعم.. كان دونجوان فى بلاط صاحبة الجلالة..

إذن من سبقونا كانوا شبابا، وكان لهم طموحات وكانوا يسعون أيضا وراء المال والفرقعة الصحفية.. لكن بقيت المصداقية والعمل والحرص على مراقبة الكبار للتعلم منهم هو العنوان الرئيسى لنجاحهم..

فى عشق صاحبة الجلالة ذهبت أجيال وبقيت أجيال ولكن السؤال: وهل ستأتى أجيال؟!