أحمد عبد الوهاب يكتب: في قفص الظن

ركن القراء

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


في إحدى ليالي تراويح رمضان قام المسجد بتوزيع زجاجات للمياه على المصليين. بعد الصلاة قامت إحدى زميلاتي ممن في قلبهن رحمة ورأفة بالقطط بتعبئة بعض الزجاجات الفارغة من صنابير المسجد حتى تسقي بهم بعض القطط لاحقًا. شاهدها المصلون تحمل الزجاجات مملوءة بالماء فظنوا بها إثما أنها طمعت في الزجاجات المخصصة للمصلين. خيرًا أرادت وصنعت، شرًا ظن الناس بها. وقع الناس في الإثم نتيجة الظن السيء، نسوا أو تناسوا قول الله تعالى "اجتنبوا كثيرًا من الظن، إن بعض الظن إثم ". وبدلًا من أن يتخذوا حديث الرسول-صلى الله عليه وسلم- : "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ"(البخاري) مبدأً لتعاملاتهم، ابتدعوا- الا قليلا- مبدأ "افترض سوء الظن إلى أن يثبت العكس".

مرض اجتماعي خطير يضرب باستقرار المجتمع ويعكر الفطرة النقية التي خلق الله الناس عليها، يتناقل الناس الأخبار بينهم دون تثبت أو تأكد من صحتها. نسوا أنه كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع. يحللون دون علم أو براهين الأخبار على أسوأها. يغلبهم الهوى أوالضلال، أو التضليل، أو الجهل، والجهل في كثير من الأمور عذر أقبح من الذنب ولا يشفع لصاحبه.

وكعلاج للمجتمع من هذه الآفة القاتلة للسلام النفسي والسلام بين الناس أمرنا المولى- عز وجل- بالتثبت من صحة الأخبار قبل تصديقها فضلًا عن نشرها بين الناس. ولك أن تتخيل أنك بنقلك وظنك السيء تتسبب في ضياع سمعة أناس شرفاء بقصد أو بغير قصد وربما لا تأتيك الفرصة لتصحيح خطأك وتبات ندمًا على ما ظننت ونشرت بغير تثبت."يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"(الحجرات آية 6)

احترس من ذاك اليوم:
ما لفت انتباهي وأزعجني من موقف زميلتي أن كثيرًا ممن رآها قد ظنوا ظنًا يصل لدرجة اليقين بأنها سرقت الماء، وبزعمهم "لقد رأيناها بأعيننا تحمل الماء"، لقد رأوا جزء من الصورة وحسبوا أنهم مدركون لها ولحقيقتها،بينما كان يدور بخاطر زميلتي ربما ثواب الرجل الذي دخل الجنة في كلب سقاه، أو قصة المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها، فلا هي التي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض.

سبحان الله نصَّبوا أنفسهم قضاة عليها وعلى نواياها، فحكموا بدون علم، فضلوا وأضلوا، وحبسوها في قفص من نوع خاص، صنعت سياجه وأقفاله من الظن والشك والريبة. والحقيقة أنهم قد سجنوا أنفسهم قبل سجنها بسوء ظنهم، وستضيق عليهم حياتهم وأنفسهم إذا لم يبرأو من هذا المرض القاتل.

وسألت نفسي ماذا لو وقف هؤلاء أمام الله فحاسبهم على ظنهم بزميلتي ظن السوء؟ وقتها سيتمنون لو عادوا إلى الدنيا لتعفو عنهم جراء ظنهم السيء بها، لكن أنّى لهم ذلك سيكون الوقت قد مضى.

ثم دعونا نتساءل كم منا مر بموقف الزميلة، ففعل خيرًا ثم ضُيِّقَ عليه وظُلِمَ بين الناس، وتألم وضاق صدره بما قالوا، لكنه عند الله قطعًا منصورًا، ولا يظلم ربك أحدا.

ثم ضع نفسك موضع الظالم واسأل نفسك كم من مرة ظَلمتَ غيرك بسبب سوء ظن، قد تنساه و ينساه الناس، لكنه عند الله باق، أحصاه الله ونسوه وما كان ربك نسيًا، فاحترس من ذاك اليوم.

لا تجعل عقلك في أذنيك:
ثم أعجب كل العجب من اولئك الذين يرون بأذنيهم، فيصدقون كل شي يسمعونه دون تفكر أو تدبر ولذا نصح أحد الحكماء فقال: "يا بني لا تصدق كل ما تسمع وصدق نصف ما ترى واترك النصف الأخر للعقل واعلم أن هناك دائماً وجه آخر لا تعلم عنه شيئاً"نعم وهبك الله أذنين وعينين، لكنه وهبك أيضًا عقلا تتدبر وتتفكر به، وقلبًا خُلِق نقيًا على الفطرة وحُسن الظن، فلا تصرفه عن فطرته النقية بسوء الظن المطلق، ولا تجعل عقلك في أذنيك فيضلك كل كاذب أو مخادع أو جاهل. ورحم الله شوقي حين انتقد من يُصدق كل ما يسمع فقال: "اثر البهتان فيه وانطوى الزور عليه ياله من ببغاء عقله في أذنيه ".

لا تظن شرًا بكلمات أو أفعال صدرت من أخيك وأنت تجد لها في الخير محملًا فبعض القصص لها تأويلات وتفسيرات عدة: تفسيرك وفهمك وتفسير غيرك وفهمه وربما كلا التفسيرين خاطئًا.

هكذا ينبغي أن نكون:
مرض الشافعي رحمه الله، فأتاه أحد أصدقاءه يعوده، فقال للشافعي: قوَّى الله ضعفك يا إمام. فقال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني. قال: والله ما أردت إلَّا الخير. فقال الشافعي: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير.

وقد ورد في الأثر أن رجلا قال لصاحبه:
"إن قلبي لا يرتاح لفلان فرد عليه: ولا أنا ولكن ما يدريك لعل الله طمس على قلوبنا فأصبحنا لا نحب الصالحين.

لا تضع نفسك موضع الشبهات:
على الجانب الآخر، لا يعني حديثي لك يا من ظن الناس به سوء بغير حق، تجاهلك لمواضع الشبهات معتمدًا على أن الناس ينبغي أن تحسن الظن بك وبأفعالك، لذا حاول جاهدًا في غير تكلف، أن لا تضع نفسك موضع الشبهات. فإن اجتهدت في ذلك ونالك بعد ذلك من أذى الناس وسوء ظنونهم فاعرض عن الجاهلين ولا يضيرك قولهم ولا تبتأس بما يظنون ويصنعون، فكل إناء يا بني بما فيه ينضح، فاملأ إنائك بحسن الظن بالله، وحسبك أن الله مطلع عليك وعليهم، إن حسابهم إلا على ربهم لو يشعرون.

لسنا في المدينة الفاضلة ولكن:
نعم أعرف اننا لسنا في تلك المدينة الفاضلة ولن نكون، وأعرف أنه إذا كان بعض الظن إثم فالبعض الآخر قد لا يكون إثما إذا صادف ذلك صدقًا وحقًا، ولكن في أيامنا هذه كثر الظن السيء، وازداد مردوده السلبي على المجتمع من خوض في الأعراض، وتجسس، وغيبة، وسب وقذف ورمي بالباطل وتخوين ومزايدات بلا سند. ليست هذه دعوة لحسن الظن المطلق، فهذا ليس من الفطنة، لكنها دعوة لأن:

- تتثبت وتتأكد وتلتمس عذرًا، خاصة مع الأهل والأصدقاء، فإن لم تجد عذرًا تعرفه، فقل لعل له عذراً لا أعرفه.

- تحدثوا إلى بعضكم البعض بما يجول في خاطركم إن استطعتم إلى ذلك سبيلا واتركوا الحديث عن بعضكم إلا ما كان خيرا.

فإن تعثر عليك بعد ذلك كله أن تجد سبيلًا ومخرجا لحسن الظن، فماذا لو أكرمته بالستر تفضلاً، فلو سترته بثوبك لكان أحرى لك. ولا يدَّعي صاحب هذا المقال المثالية فيما يكتب لكني أُذَكِّر نفسي أولًا ثم من حولي وأسأل الله العفو والمغفرة فيما مضى وأن لا يفتنا فيما هو آت.

حياتنا قصيرة وقلوبنا جميعا بحاجة لتهدأ بين الحين والآخر ويذهب ما بها من غبار الحياة فلا تفسدها بسوء الظن. ولا تقل أن قليلا من الظن ليس بإثم، فكم من قليل أفقدنا الكثير من أفعال الخير.نظف قلبك بحسن الظن واعمل عقلك ولا تجعله في أذنيك. رزقنا الله وإياكم حسن الظن، وصفاء القلب، ورجاحة العقل، وحسن العمل.