ماذا بقي في ذاكرة أهالي "تصفا" عن العالم النووي أبو بكر رمضان؟ (معايشة)

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


صباح يوم الخميس الماضي، كان العالم المصري أبو بكر رمضان رئيس هيئة الرقابة النووية والإشعاعية، على رأس الورشة التي تقيمها مدينة مراكش بالمغرب حول التلوث البحري بمعاونة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ليتمكله شعور بالتعب اضطره أن يطلب من المنظمين الإذن بالانصراف، فتوجه على الفور إلى الفندق وهو في حالة شديدة من الإعياء نتيجة عدم قدرته على التنفس بشكل طبيعي، فتم استدعاء طبيب الفندق على الفور، فصرح بأنه يعاني من أزمة قلبية حادة، وتم نقله بسرعة إلى المستشفى، لتوافيه المنية هناك.
الرحيل السريع والغامض للعالم المصري، لم يترك فقط الكثير من علامات الاستفهام حول السبب الحقيقي للوفاة، وماذا إذا كانت طبيعية أم أن هناك سر وراء ذلك -حسب ما أُثير- ، لكن موته فرض أيضًا حالة من الحزن بين أفراد عائلته وأهل قريته. انتقلت "الفجر" إلى قرية تصفا التابعة لمركز كفر شكر بمحافظة القليوبية، كي تعايش حالة الفقد التي تتملك أهل القرية، وتتلمس خيوط سيرته الطيبة التي تلهج بها الألسنة، وترافقها دعوات الرحمة والصبر.

النجاحات الكبيرة تبدأ بأحلام صغيرة
بحكم كون "جمعة شحاتة" خال الرئيس السابق لهيئة الرقابة النووية، جعلته يتعرف على مكامن شخصيته الحقيقة منذ أن كان طفلًا صغيرًا، وحياته ما هي إلا سلسلة متصلة من الجهد والمثابرة، والتي تدرجت معه بداية من التحاقه بكلية العلوم جامعة الزقازيق، والتي طوقها ابن أخته بالعزيمة والإصرار في أن يحفر لاسمه مكانًا في مجال الطاقة النووية، هذه التجربة الشاقة غذتها مساعيه في الحصول على الماجستير والدكتوراة فيما بعد، بالإضافة إلى السفريات العديدة التي جال فيها حول العالم، جعلته جديرًا بأن يكون مسؤولًا عن متابعة الآثار الجانبية للمفاعل النووي الإسرائيلي والإيراني.





علم "جمعة" بالوفاة من خلال اتصال هاتفي تلقاه من زوجة أبو بكر رمضان، ثم طالع الخبر على بعض صفحات السوشيال ميديا وأكده أكثر من وسيلة إعلامية، فوقع الخبر على قلبه كالصاعقة تبدد الرجل للحظات في صورة الذكريات الكثيرة التي جمعته بابن أخته، لكنه حاول أن يتمالك نفسه مرة أخرى، فأمر بتجهيز أمور الدفنة والعزاء "على أساس إنه هييجي بسرعة"، وهو ما افترضه بحكم المنصب الكبير الذي يشغله الراحل، لكن خالفته ظنونه ولم يتحقق ذلك على الرغم من مرور ما يقرب من 5 أيام على الوفاة "الموضوع فيه شيء من البهدلة"، حسبما قال جمعة لـ"الفجر".
في الفترة الأخيرة تقلصت زيارات أبو بكر رمضان إلى قريته، نظرًا لالتزامات عمله الكثيرة التي تستوجب بقاءه في مصر باعتباره ضمن الفريق المشرف على مشروع الضبعة النووي أو سفرياته العديدة بين الحين والآخر، وهو ما ضيق مساحة العلاقات الاجتماعية أمامه وأصبحت مقتصرة على الدوائر المقربة "علشان كدا بينجحوا ويحققوا ذاتهم"، ويقول جمعة إن الراحل كانت لدية المقدرة على إعطاء المواقف والأماكن الأسلوب التي يتناسب معها، فإذا ما دبت قدمه أرض البلدة يتماهى مع أهلها، وإذا جلس على مكتبه في الهيئة يتعامل وفق القواعد التي يقتضيها منصبه الأدبي.

علامات استفهام 
قرأ شحاتة البيان الذي أصدرته هيئة الرقابة النووية والتي كشفت فيها عن ملابسات وفاة ابن أخته، لكنه وضع في نهايتها الكثير من علامات الاستفهام، كما حامت في رأسه احتمالات عديدة يفرضها المنصب الكبير الذي كان يشغله أبو بكر رمضان، وتجعله في مرمى أنظار الجميع، ويبرر ذلك بتفاصيل الساعات الأخيرة في حياة عالم الطاقة، حيث لم يكن من قبيل الصدفة أن يشعر الراحل بالمغص والإعياء بعد تناول كوب العصير، الأمر الذي يجعل الحادث في نظره أشبه ما يكون بجريمة سياسية، في حال صدقت ظنونه. وعن آخر موقف جمعه بالعالم المتوفي "مفيش أي تغيير كانت صحته كويسة وفي حالته الطبيعية زي ما بشوفه كل مرة".







حالة الحزن التي أعقبت رحيل أبو بكر رمضان تحولت مع الوقت إلى حالة من السخط لدى أفراد أسرته وأهل البلدة، بسبب إصرار بعض الجهات على اتباع الروتين الحكومي من أجل إجراءات نقل الجثمان، "دا شيء غريب جدا"، ويقول جمعة إنهم لم يتوانوا عن استعدادهم لدفع رسوم نقله في حالة اقتضى الأمر ذلك "المهم إنه ييجي ويدفن إكرامًا له مش أكتر".
حتى لا يلتهم شبح النسيان سيرة العالم النووي
لا يتذكر "محمد يوسف" العالم المصري إلا مقرونًا بالسيرة الطيبة والأخلاق الرفيعة ومعاملته الراقية التي كان يتبسط فيها لكل من حوله "لو قابلته في الشارع تحسه إنسان عادي جدًا"، فكانت تربطه به صلة القرابة من ناحية زوجته، حيث كان الراحل ابن عم لها، فتعامل معه عن قرب وتعرف على جوانب من شخصيته التي يراها الرجل أنها ربما لن تتكرر كثيرًا، في ارتباطه الكبير بالعلم وسعيه الدؤوب والمستمر في أن يضيف المزيد من الأبحاث والدراسات إلى تاريخه.






صُدم محمد بالخبر كما الآخرين من أسرته وأهل القرية، لكن زاد من وطأته شعور الحسرة الذي من الممكن أن يتملك الإنسان في أن يموت وحيدًا في الغربة ويغادر دون أن يلقي نظرة أخيرة على من يحبهم حتى يكونوا آخر ما يراه في الدنيا، لكن يخفف من تلك الهواجس أن الراحل مات في بلد عربي، كذلك موته جعل العالم كله يلتفت إليه ويشاطروهم الحزن على رحيله "للأسف دي مشكلة عندنا إننا مش بنعرف قيمة الناس غير بعد أما يموتوا".

يخاف صاحب الـ49 عامًا من أن يطال شبح النسيان سيرة العالم المصري، لذا يتمنى أن تخلد عن طريق إطلاق اسمه على أي مكان داخل القرية سواء كان مدرسة أو شارع "دي أقل حاجة ممكن تتقدم له"، ويضيف أن الراحل كان لديه أربعة من الأبناء أكبرهن ابنته التي كانت تتأهب للالتحاق بالسنة الأولى بالجامعة وثلاتة آخرين، بجانب طفله الذي توفاه الله قبل 5 أعوام وهو ابن 12 عامًا.
أصداء النبوغ تتردد من سطح البيت
منذ أن كانت "حنان أحمد" طفلة صغيرة وهي تسمع اسم أبو بكر رمضان يتردد في جنبات القرية مصحوبًا بالإجلال والاحترام، الأمر الذي أعطاه شهرة كبيرة على مستوى البلدة التي يقطن فيها "كنا دايمًا نسمع إن عندنا عالم كبير"، وتقول إن حياته كلها كانت منصبة على تحصيل العلم والمذاكرة، وإن زواجه جاء متأخرًا جدًا، فالقرار جعله الرجل خارج حساباته "هو أكبر واحد في إخواته وآخر واحد متجوز"، وعلى الرغم من استقلاله عن منزل العائلة وانتقاله إلى مدينة العبور، إلا إنه لم يقطع زياراته إلى القرية، حيث كان حريصًا على الإشراف بنفسه على متابعة أعمال الخير التي يكلف إخوته بعملها.






لم تقتنع حنان هي الأخرى بالرواية الرسمية في إن موته كان سببه سكتة قلبية، وتبرر ذلك بالكلام الذي تداوله جيرانها حول الاتصالات المستمرة التي كانت بين المتوفي وزوجته يطلعها فيها على أخباره لحظة بلحظة، وكان آخرها أثناء المؤتمر قبل أن يتناول عصير البرتقال، مما يجعل الحادثة - في نظرها- ربما تمت عن عمد، تصمت السيدة الثلاثينية ثم تتابع بنبرة يملؤها الحزن "دي أخرتها إنه بنى نفسه بنفسه".
حنان التي يبعد منزلها عن بيت عائلة العالم النووي، جعلها تتابع سيرته عن كثب، خاصة أنه خلال مرحلة دراستها الابتدائية والإعدادية كانت في ذات المدرسة والتي تلاصق بيت الراحل، مما أتاح لها ولزملائها أن يشاهدوه في مرات كثيرة جالسًا فوق سطح المنزل مكبًا على الكتب يقرأ ويطالع بالساعات، وعندما كان يدفعهم الفضول للسؤال عنه "كانوا بيقولوا لنا إن دا عالم وبيحضر دكتوراة"، وبعد سنوات عديدة رأوه عالمًا بظهر منحني خلفه الكثير من الأبحاث والدراسات في مجال الطاقة النووية، وتقول إنه دائمًا ما كان يحث الأهالي على إلحاق أولادهم بجامعة زويل، فيما كان يوجه نصائحه المستمرة إلى الطلاب بالالتحاق بكلية العلوم لأهميتها ومساحات عملها المتشعبة.