ياسر عبدالعزيز يكتب: أنقذوا الإذاعة

الفجر الفني

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


فى عشرينيات القرن الفائت، ازدهر عمل الإذاعات الأهلية فى مصر، وهى إذاعات امتلكها تجار وملاك أراض وبعض الأفراد المهتمين، لكنها لم تكن تبحث سوى عن الربح وجذب الجمهور بأى وسيلة من الوسائل. ولكى تنجح فى ذلك، فإنها اعتمدت على سياسة تلبية طلبات المشتركين فى خدماتها أياً كانت، ومن ضمن تلك الطلبات تبادل الرسائل بين الأزواج وعبارات الحب والعتاب بين الأصدقاء والمحبين.


ولأن السلطات لم تقنن أوضاع تلك المحطات فى ظل نشاط إذاعى مستحدث ومُشرع لم ينل الوقت اللازم لضبط أحواله، فإن مهازل عديدة حدثت على أثير البث المنفلت، ومن بين هذه المهازل تبادل المطربين الشتائم والتجريح على مسامع الجمهور، فضلاً عن تأجير أو تحريض بعض هؤلاء أنصارهم ليواصلوا طلب أغنياتهم، بما يوحى بأن مكانتهم بين الجمهور كبيرة.

ومن بين ما رصده المؤرخون المعنيون بنشأة الإذاعة فى مصر، تلك العبارة التى أُذيعت يوماً على هواء إحدى هذه الإذاعات: «محمد أفندى عز العرب الموظف بوزارة الأشغال، والجالس الآن على مقهى البسفور فى الحسينية.. السيدة المحترمة زوجتك تطلب إليك العودة إلى المنزل، لأن ضيوفاً من البلد وصلوا تواً».

لم تكن تلك هى أسوأ الممارسات التى نجمت عن الاستسلام للأنموذج الربحى القائم فقط على تلبية طلبات الجمهور مهما كانت، من أجل زيادة عدد الاشتراكات، التى تشكل المورد الأهم لتلك الإذاعات، إذ ظهرت أنماط استغلال أكثر بشاعة.

فقد وصل الأمر فى بعض الأحيان إلى أن بعض الخارجين على القانون استغلوا تلك الحالة المنفلتة فى تبادل الرسائل التى تيسر لهم تنفيذ أنشطتهم الإجرامية بعيداً عن أعين رجال الشرطة. ومن ذلك أن وزارة الداخلية لاحظت أن بعض المستمعين يطلب سماع أغنية «الجو غيم» حين يريد أحد أفراد تنظيم إجرامى تنبيه زملائه إلى أن الشرطة تضيق الخناق عليهم، فيلتزمون الكمون، ويُحجمون عن تداول «البضاعة». وفى المقابل، يطلب أحد المستمعين من مشتركى الإذاعة سماع أغنية «الجو رايق»، ما يعنى أن زملاءه يمكنهم التحرك لتصريف المخدرات التى بحوزتهم.

وكان هذا الاستخدام المبتذل والسفيه، والإجرامى أحياناً، لأنشطة بعض هذه الإذاعات سبباً مباشراً فى حمل السلطات على الإسراع فى سن القوانين الملائمة لتنظيم البث الإذاعى، وهو الأمر الذى مثل اتجاهاً متصاعداً أخذ الأمور إلى السيطرة الكاملة على محتوى البث من قبل الأجهزة الحكومية، فضلاً عن احتكار الدولة هذا النشاط جملةً وتفصيلاً، فى رد فعل أدى بصرامته إلى وقوع سلبيات أخرى لا تقل خطورة.

والشاهد، أننا بعد مرور قرن تقريباً على الانفلات الذى هيمن على البث الإذاعى، نعيد التجربة ذاتها، رغم وجود قوانين وضوابط ولوائح جزاءات ونقابة إعلاميين ومجلس أعلى لتنظيم الإعلام.

ما نسمعه على بعض الإذاعات النشطة الآن لا يختلف كثيراً عما حدث فى عشرينيات القرن الماضى، وجوهره مداعبة غرائز الجمهور، والابتذال، والإسفاف، وتوظيف مذيعين لا يحترمون أى معيار، فضلاً عن عدم قدرتهم على إدراك معايير هذا العمل المهم والحيوى.