منال لاشين تكتب: لغز ثورة يوليو

مقالات الرأي



تسلم مصر والطبقة المتوسطة 11% وتركها تقود المجتمع بـ65%

أكبر خطة تنمية فى ظل قوانين تحمى العامل والموظف


كلما هلت علينا ذكرى ثورة 23 يوليو وما يصاحبها من هجوم على الثورة وزعيمها تذكرت مقولة للكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، كان بهاء يرد بها على كثير ممن احترفوا الهجوم على الثورة وعلى جمال عبدالناصر. كان يقول ساخرا: الواحد من دول يجلس فى نادى الجزيرة ويهاجم الثورة ووالده لم يكن يستطيع لولا الثورة المرور بجوار النادى.

بالفعل ما يشغلنى هو الهجوم والسخرية وطول اللسان من أجيال استفادت هى وعائلتها من كل ما قدمته الثورة وعبدالناصر إلى الناس العادية. ربما أتفهم هجوم بقايا الإقطاعيين والبشوات الذين أضيروا من إجراءات التأميم، ولكن أن يأتى الهجوم ممن تسلقوا السلم الاجتماعى من أسفله بفضل الثورة، فهذا سلوك يحتاج إلى طبيب نفسى عبقرى مثل الدكتور أحمد عكاشة، بأكثر مما يحتاج إلى أستاذ الأجيال فى العلوم السياسية الدكتور على الدين هلال. أحفاد الفلاحين المعدمين والجناينية يعارضون الآن بكل ضراوة قصة الحب بين إنجى بنت الأمير وعلى ابن الجانينى فى الفليم الشهير (رد قلبى). ويؤكدون أن (على) وصولى ومتطلع ولازم يحب على قده ومن طبقته. لأن اللى اتولد فى الطين يجب أن يعيش ويموت فى الطين. ويبدو أن السنوات وحملات الهجوم المنظم أصابت البعض بالنسيان، فانطلقوا يهاجمون كل إجراءات ثورية حمتهم من الظلم والمرض والجهل، ومهدت لهم حياة أفضل وصعدت بهم لطبقة أعلى. فلولا يوليو لما كانت الطبقة المتوسطة التى تصنع أخلاقيات ومستقبل أى وطن.


1- أكاذيب وأوهام

من أكثر الانتقادات الموجهة للثورة وزعيمها جمال عبدالناصر انتقاد يتعلق بتوفير سبل الحياة الكريمة للمصريين. يهاجمون عبدالناصر بدعوى أنه وفر للشباب شقة إيجار ليتزوج بها ووظيفة عن طريق القوى العاملة فور التخرج، كما أنه تجرأ ووفر التعليم الجامعى المجانى لكل الشباب، فتسلل للجامعة كل من هب ودب من الفاشلين. بل إن عبدالناصر دلل المصريين بقوانين تأمينات ومعاشات وعمل أمنت للمصريين الحاضر والمستقبل، فنشروا الفساد والإهمال فى الحكومة. كما أن عبدالناصر لم يطلق طاقات المصريين للعمل والإبداع بعدما أمنهم فى كل جوانب حياتهم، فنامت الهمم وتراخت العقول وأصبحنا أكثر شعوب الأرض كسلا وتواكلا على الحكومة. وفيما بعد وبعد عشرات السنين من رحيل عبدالناصر والانقلاب على سياسته لخص أحد رؤساء الحكومة هذه السياسة بالقول: (الناس عايزة الحكومة بابا وماما)، وحتى القطاع العام الذى كان يوفر للناس سلعا وخدمات مقبولة بأسعار فى متناول أيديهم أو بالأحرى على قدر جيوبهم ودخلوهم، ولذلك كان يجب أن يشوه هذا القطاع ويباع مفككا مهانا لناهبى ثروات الوطن. وبالطبع يغلف كل هذه السموم والأكاذيب والأوهام بنظريات اقتصادية.


2- خطة الإنقاذ السريعة

وبعيدا عن الخرافات فإن عبدالناصر كان يفكر حتى قبل الثورة فى حال شعب مصر، وخلص إلى أن الحل والضمان والأمان هو إطلاق إجراءات لبناء طبقة متوسطة قادرة على الحفاظ على قيم المجتمع. وقد نجح عبدالناصر فى ذلك نجاحا باهرا، فالطبقة التى كانت تتراوح نسبتها لنحو10% من الشعب المصرى قبل ثورة 23 يوليو، فأصبحت قبيل رحيل الزعيم تزيد على 60%. لقد كانت كل سياسات جمال عبدالناصر تهدف إلى نقل المعدمين والفقراء وأبنائهم إلى خانة الطبقة المتوسطة.فجعل التعليم الجامعى مجانيا. وهذه الخطوة التى لم يستطع حزب الوفد اتخاذها رغم كل جماهيريته. ووفر العمل والسكن الفورى لأبناء الفقراء، والأهم فتح لهم أبواب العمل ليس فى الحكومة فقط كما يدعى الجهلاء، بل فى المصانع والمشروعات التى أقامتها حكومات الثورة وتزيد على 350 مشروعا ومصنعا. وكانت تمثل نصيب مصر من الثروات. وأمن عبدالناصر للعمال والموظفين وأسرهم الحياة الكريمة دون فصل تعسفى، وبنظام معاش يضمن لأسرهم استمرار الحياة الكريمة. وبحسب أعداء الثورة من أهل الغرب، فقد اعتبرت مؤسسات الرأسمالية الغربية قوانين المعاش والعمل فى عهد عبدالناصر الأفضل على مستوى العالم للعمال والموظفين. والفكرة من تلك القوانين لم تكن قهر أصحاب الأعمال أو الحقد على الأغنياء، ولكن الفكرة فى الإسراع بتكوين طبقة متوسطة مستقرة قادرة على حماية حقوقهم. ولذلك يمكن تفهم أن يصدر قانون الإصلاح الزراعى بعد شهرين من نجاح الثورة. فعبدالناصر لم يكن يلغى الطبقات الاجتماعية مثلما يدعى الموتورون، ولكنه كان يدعم ويقوى الطبقة المتوسطة لتصل نسبتها إلى النسب العالمية. وبنفس المنطق كان عبدالناصر حريصا على خلق المناخ الاجتماعى لهذه الطبقة، فشيدت أحياء جديدة للمهنيين منهم، وأحياء أخرى للعمال تضمن الحدود الكريمة والآدمية لهم. وبلغة العلم فإن عبدالناصر وضع الاقتصاد والسياسة والقوانين فى خدمة الهدف الأسمى وهو بناء طبقة متوسطة على أسس حقيقية قادرة على قيادة المجتمع المصرى. فالقضية ليست تدليلا فى حضن بابا وماما، ولكنها قضية عدالة اجتماعية وإعادة بناء المجتمع المصرى على أحدث وأرقى النظم العالمية التى تعتبر نسبة الطبقة المتوسطة فى أى مجتمع هى أهم دليل على تحضر المجتمع وسلامة بنيان الدولة وقوة أمنها القومى. ولذلك كان جمال عبدالناصر حريصا على أن تدور معظم إجراءات الثورة وقوانينها فى إطار تحقيق هذا الهدف. وذلك فى فترة زمنية وجيزة، وهو هدف عظيم وحاسم فى تاريخ مصر، حتى لو خالف عبدالناصر بعض القواعد الاقتصادية.


3- لغز عبدالناصر

على أن المفارقة أن مخالفة القواعد الاقتصادية خاصة الرأسمالية أدت إلى نتائج اقتصادية خرافية. ويكفى أن تعرف أن مصر لم تكمل فى حياتها خطة اقتصادية خمسية (كل 5 سنوات) إلا فى عهد عبدالناصر، وأن حجم البناء والتعمير كان معجزة. وذلك على كل المستويات البناء الاجتماعى من سكن ومدارس وجامعات ومستشفيات، أو على مستوى البناء الاقتصادى من مصانع ومشروعات وإعمار الصحراء. وكل ذلك ينفى تماما فكرة كسل الموظفين فى عهد عبدالناصر، أو بالأحرى فى عهد الأمان لهم. كما أنه يكشف من ناحية أخرى أن توفير الظروف المناسبة للمواطن المصرى تدفعه إلى أعلى معدلات الإنجاز. وهذا اللغز أو السر يحتاج إلى وقفة متأنية. فالعامل المصرى الذى نشكو الآن من انخفاض إنتاجيته، هو نفس العامل أو بالأحرى ابن العامل الذى أصر أن يعمل وردية إضافية مجانا للمجهود الحربى. والمرأة أو الشابة التى ترفض الزواج دون شقة تمليك، كانت أمها تبدأ عش الزوجية بشقة غرفة واحدة، وبأساسيات الأثاث فقط. هذا هو سر أو لغز عبدالناصر أنه استطاع أن يصل برسالته بإقناع الناس إقناعا حقيقا، أعطاهم حقوقهم فأخذ منهم حق الدولة. أمنهم على حياتهم ومستقبل أبنائهم فأصروا على تأمين مصر اقتصادها ومستقبلها وحدودها. وسيظل هذا اللغز محيرا للجميع لأنه لغز عبدالناصر.