د. رشا سمير تكتب: فيها ألف حاجة حلوة

مقالات الرأي



كتب أولج فولكف فى كتابه (القاهرة مدينة ألف ليلة وليلة) يقول:

«قليل من المدن تلك التى يمكن أن تثير خيال المرء لدى سماع اسمها كمدينة القاهرة.. فالقاهرة هى خليط معمارى رائع».

تلك الكلمات تصف بدقة الحالة الرائعة التى عشناها فى افتتاح كأس الأمم الإفريقية منذ أيام على أرض مصر، افتتاح أبهر العالم ووضع مصر على خارطة الرُقى والتقدم، ومن لم ير ذلك بوضوح هو من المؤكد أعمى، إما البصر أو البصيرة!.

على هامش البطولة، رأينا الشوارع تتلألأ من شدة النظافة، الطرق مرصوفة، والأشجار تتزين بالأضواء والشباب ينظفون المدرجات بابتسامة.. والاستاد يرتقى إلى مستوى أى استاد عالمى، فالمجهود المبذول وراء خروج البطولة بشكلها الرائع مجهود يستحق الإشادة..

إلى هُنا أغمض عينى لاستكمل الحُلم.. فماذا لو؟؟

ماذا لو أصبحت القاهرة كل يوم فى بطولة كروية أو مهرجان فنى؟ ماذا لو بقيت الصورة لما بعد البطولة؟ ماذا لو ظلت تلك هى مصر الجميلة كل يوم؟

لكن.. ولكى تبقى تلك الصورة يجب أن تنقشع ألف صورة أخرى..

مع بداية شهر رمضان مثلا يُصبح فتح كافيه فى الشارع أسهل من خلع الضرس!.. شوية كراسى بلاستيك ونصبة شاى فى عرض الطريق، صف ثان وثالث دون مراعاة للمنظر العام.. ولا حياة لمن تنادى!.. من يُحاسب هؤلاء؟

قرأنا منذ أعوام عن مشروع إحياء القاهرة الخديوية وهو من وجهة نظرى أهم مشروع يجب أن تتبناه مصر اليوم لإعادة الرونق إلى مدينة ذبلت ملامحها.. لا أعلم إلى أين انتهى هذا المشروع؟ لكن الإهمال الواضح فى الأماكن الأثرية يستدعى وقفة لإعادة السياحة كمصدر رئيسى للدخل القومى.

حتى إن المجهودات التى تتم فى إعادة طلاء الأماكن الأثرية تزيدها قبحا، بالإضافة إلى صورة أخرى مفزعة من صور القُبح وهى تلك التماثيل الجبس للزعيم جمال عبد الناصر ونفرتيتى والفلاحة المصرية التى تم وضعها فى مداخل المحافظات!..

تُرى من هو العبقرى المسئول عن طلاء تمثال الخديو إسماعيل بالدوكو؟!.

سؤالى هو.. كيف أصبحنا نتفنن فى القُبح وأجدادنا هم صُناع الجمال؟.. من المعابد الفرعونية إلى العمارة الفاطمية والمملوكية ازدانت القاهرة بجمال لا تمتلكه أى عاصمة أخرى فى العالم.. أما اليوم فقد تدهور بنا الحال حتى أصبح مظهرنا وسلوكنا يتسمان بالقبح!.

العمارات القديمة فى منطقة وسط البلد هى صورة رائعة راقية للمعمار الفرنسى الذى مازال واجهة باريس حتى اليوم.. فالحملة الفرنسية يوم رست فى القاهرة رأت فيها من الجمال ما لم يره أهلها.. وهو ما دفع فنانوها ومؤرخوها إلى وضع ما رأوه فى كتب ولوحات حملت تاريخ مصر للأجيال التالية..

من المنطقى والبديهى أن تتجه الدولة نحو الاتساع برقعتها للأطراف لبناء مدن جديدة وناطحات سحاب ولكن.. أين القاهرة القديمة من التطوير والاهتمام؟ هل ماتت قاهرة المُعز؟!.

أدعو الوزارات المعنية إلى إعادة شوارع القاهرة ومساجدها القديمة وبيوتها الأثرية إلى رونقها الأصلى.. لقد ذبلت منطقة الزمالك وشاخت المعادى وانهزمت مصر الجديدة فى معركة القمامة والتوكتوك والبلطجية والباعة الجائلين..

إن الدُول التى تبحث عن الإبهار من خلال المعمار الحديث هى دول لا تمتلك من جمال التاريخ ما تمتلكه مصر!.

ضفاف النيل التى غزتها القمامة والزجاجات البلاستيكية صورة قاتمة أنستنا صفحة النيل الزرقاء المتلألئة.. هنا يجب أن أشيد بمجموعات الشباب والجمعيات الأهلية التى قررت أن تتبنى فكرة تنظيف النيل بأيدى الشباب وسكان منطقة الزمالك، فتحية تقدير لهم.. ولكن.. أين الدولة؟ وأين مُحافظ القاهرة؟

إن شارع المُعز يئن اليوم تحت وطأة الإهمال والتشويه والعشوائية التى احتلته فعادت به إلى سابق عهده قبل أن يُبدل صورته ويعيد كتابة تاريخه وزير الثقافة الفنان فاروق حسنى الذى كان يقدر قيمة الجمال فأولاه الاهتمام، ليجعل منه فخرا لكل مصرى.. حتى وكالة العنبريين التى حاول الوزير ذاته أن يضمها لقائمة الآثار لتبقى ضمن نسيج شارع المُعز تم هدمها دون تبرير كاف، وهو تأكيد آخر على اغتيال التاريخ..

إن تشويه صورة القاهرة التى تغفو بين أحضان النيل هو وجه أكيد من أوجه الفساد الذى تجب محاربته بردع كل من هو طرف فى هذا الإهمال وكل من يُفسح للقبح طريقا.. ولتكن هذه مبادرة ندعو فيها أنفسنا قبل المسئولين إلى إعادة رونق قاهرة المُعز والمحافظة على نظافتها وصناعة تاريخ جديد ترثه الأجيال القادمة.