د. نصار عبدالله يكتب: أحمد إبراهيم الفقيه

مقالات الرأي



منذ شهر تقريبا رحل أحمد إبراهيم الفقيه عن عالمنا عن عمر يناهز ستة وسبعين عاما.. حين عرفت الخبر وجدت نفسى لحظتها لا أملك إلا أن أردد ما تعودت أن أقوله فى مثل هذه المناسبة عندما يغادر عالمنا صديق عزيز: «لقد رحلت برحيله مساحة أخرى من الخضرة فى هذا الزمن القاحل، ولسوف تزداد أيامنا من بعده أيامنا جفافا وتصحرا!!. كان الفقيه روائيا رائعا، وقبل ذلك وأهم من ذلك أنه كان إنسانا طيب المعشر لا تملك حين تتعرف عليه إلا أن تحبه، وأهم من ذلك أنه كان شديد العشق لكل ما هو مصرى، ولا أظن أننى قد عرفت من أشقائنا الليبيين من أحب مصر قدر ما أحبها الفقيه وكأنه قد ولد فيها وانتمى إليها وعاش آلامها وآمالها وأحلامها طيلة حياته رغم أنه فى الواقع لم يعش فيها إلا جانبا من حياته فقط بينما عاش الجانب الآخر متنقلا بين بلده ليبيا التى كان يعمل فيها أستاذا للأدب العربى وبين عدد من البلاد الأوروبية والآسيوية التى عمل فيها سفيرا أو أستاذا جامعيا أو صحفيا.. وعندما كنت مقيما فى القاهرة أو عندما كنت دائم التردد عليها بصفة منتظمة كنت أحرص على أن ألتقى به بشكل منتظم فى مقهى سوق الحميدية بباق اللوق حيث كان اللقاء يقتصر علينا: هو وأنا فى بعض الأحيان، وأحيانا أخرى كان ينضم إلينا عدد من المهتمين بالأدب والثقافة الذين أذكر منهم الناقد الراحل فاروق عبدالقادر، والناقد أسامة عرابى الذى انقطعت أخباره عنى منذ سنوات ولا أذكر أين هو الآن.. وعندما كان ينعقد معرض القاهرة الدولى للكتاب فى أواخر شهر يناير من كل عام.. كان الفقيه (عندما يتصادف وجوده فى القاهرة) كان من بين زائريه بشكل يومى طيلة أيام انعقاده حيث كنا نلتقى فى المقهى الثقافى ومعنا الشاعر الراحل محمد عفيفى مطر الذى لم يكن بدوره يغادر المعرض طيلة مدة انعقاده منذ افتتاحه فى الصباح إلى أن يغلق أبوابه فى المساء.. ولقد كنت شخصيا معجبا بأعمال الفقيه التى قرأتها كلها تقريبا بما فى ذلك أولى أعماله القصصية : «البحر لا ماء فيه والتى لم أقرأها بالطبع فى عام صدورها، إذ أنها قد نشرت فى عام 1959، بينما كنت قد بدأت أقرأ أعماله بعد ذلك بعشرين عاما على الأقل، وكان الفضل فى لفت نظرى إليه راجعا إلى أستاذى وصديقى الشاعر والمثقف الكبير صلاح عبد الصبور الذى حدثنى عن مدى عذوبته على المستوى الفنى، ومدى نقائه على المستوى الإنسانى..وفى منزل صلاح عبدالصبور قدر لنا أن نلتقى لأول مرة حيث استمرت الصلة بعد ذلك وازدادت ألفة وحميمية، كان الفقيه يمتلك مثل صلاح عبدالصبور رؤية متعمقة إلى العالم والأشياء، وحسا نقديا ساخرا بديعا يكسر به حدة السوداوية التى تتسم بها حياتنا العربية المعاصرة.. انظر مثلا إلى عنوان أحد مجموعاته القصصية وهو: «خمس خنافس تحاكم شجرة» لترى كيف استطاع أن يعبر عن مضمون سياسى بالغ المرارة من خلال عنوان بالغ الطرافة.. وانظر أيضا إلى عنوان آخر من عناوين أعماله التى تتسم بنفس السمة، ألا وهو : «فى هجاء البشر ومديح البهائم والحشرات»، أو : «الحالة الكلبية لفيلسوف الحرب»!، ورغم أن الفقيه قد كتب ما يزيد على ثلاثين عملا متنوعا ما بين مجموعة قصصية قصيرة، ورواية طويلة، وما بين دراسة نقدية أو دراسة تاريخية، أو ترجمة لسيرة شخصية من الشخصيات السياسية المعروفة، ورغم أنه قد أسهم إسهاما مشهودا فى مجال العمل الصحفى حيث سجل رقما قياسيا فى شغل موقع رئيس التحرير لعدد من الصحف والمجلات الليبية والعربية (كان رئيسا لتحرير اثنتى عشرة صحيفة ومجلة.. بالطبع لم يترأس تحريرها فى وقت واحد، لكن الرقم يظل رغم ذلك رقما قياسيا، خاصة إذا أخذنا فى الحسبان أن بعض تلك الصحف قد تأسست على يديه هو مثل مجلة الرواد الأدبية ومثل صحيفة «الأسبوع الثقافى ومثل مجلة «الثقافة العربية التى أسسها فى بيروت فى منتصف الستينيات من القرن الماضى، وترأس تحريرها فترة من الوقت، حرص فيها على أن يقدم للقارئ العربى أصواتا وأقلاما جديدة، كان له الفضل فى جعلها تنشر لأول مرة عندما لمس فيها أنها تتسم بالثقافة والموهبة، ورغم أنه كان فى نفس الوقت واحدا من الأقلام المعروفة التى تنشر فى كبريات الصحف العربية مثل صحيفة الأهرام المصرية التى كان يكتب فيها مقالا كل أسبوعين طيلة حقبة الثمانينيات والتسعينيات، رغم ذلك كله، ورغم الكثير من الإنجازات الأخرى للفقيه مثل تعريفه للقارئ الإنجليزى بالأدب العربى من خلال مجلة آزور (الأفق) Azure التى كان يصدرها فى لندن على مدى عشر سنوات متتالية، رغم ذلك فإن الفقيه لم يشتهر بشىء مثلما اشتهر بخماسيته التى تمثل بالنسبة للأدب الليبى ما تمثله للأدب المصرى ثلاثية نجيب محفوظ مع الفارق بطبيعة الحال، وخماسية الفقيه هى رواية مكونة من خمسة أجزاء متصلة الأحداث والشخصيات وإن كان كل منها يحمل عنوانا مستقلا: ومن أجملها: «سأهبك مدينة أخرى وهذه تخوم نفق مملكتى مظلم تضيئه امرأة واحدة، وقد عرفت هذه الخماسية باسم أول أجزائها : «سأهبك مدينة أخرى، حيث تم اختيارها من قبل العديد من الجهات والهيئات المهتمة بالأدب العربى كواحدة من أفضل مائة رواية عربية صدرت فى القرن العشرين. دعك من الانتقادات الحنجورية التى كثيرا ما وجهها بعض النقاد إلى الفقيه نظرا لتقربه من العقيد معمر القذافى، وبرغم أنى شخصيا كنت أمقت القذافى أو على الأقل كنت لا آخذه مأخذ الجد وأعتبره مختلا عقليا شأنه فى ذلك شأن بعض الرؤساء العرب والأفارقة إلا أننى أرفض رفضا تامًا أن أقيم كاتبا بمعيار قربه أو بعده من هذا الرئيس أو ذاك.