محمد سمير يكتب: جراحُ الثانوية العامة وحوار مع الآباء

مقالات الرأي

محمد سمير
محمد سمير


بكاء، عويل، صراخ، أحضان تتلاقى، منهمرة معها دموع الحسرة، أمهات تسقط مغشياً عليها، أبناء يشكلون مواقف الحشر من عشوائية على جنبات الطريق، يذكّر حالهم بمشاهد يوم القيامة، وكأنه قد حُكم عليهم بدخول النار والخلود فيها، مشاهد وأفعال غريبة، طقوس سنوية حمقاء، حياة مأساوية نعيشها في كل عام تُنكأ معه جراح الثانوية العامة.

تبدأ القصة المأساوية مع ابن خاوي الوفاض، فاقد لكيانه، يعيش بين الانهيار والخوف من الفشل، آباء وأمهات يجهلون دورهم في التعامل مع مراحل تعليم أبناءهم، لا سيما مرحلة الثانوية العامة، الوبال الأزلي، الذي تغير من موسم الامتحانات إلى موسم شق الجيوب، ولطم الخدود، والدعاء بدعوى الجاهلية، وارتكاب الموبقات، والموت انتحاراً من البنايات والشُرفات.

أرى أن رحلة فقد الأبناء، التي تصل إلى حد الموت خوفاً من الامتحانات، تبدأ من البيت، حيث يظل الأب والأم طيلة العام يرعبون أبناءهم من هول ما ينتظرهم، وأعرف قصصاً مأساوية كثيرة في هذا الجانب، بدأت بحبس الابن لإرغامه على المذاكرة، لتحصيل مجموع الطب، وانتهت بحالة نفسية سيئة، وفشل لم يرحم حياته الزوجية.

ترى الابن لا حول له ولا قوة، إذا ما انتهى من السنة الثانية، وبدأ في الثالثة، تشعر وكأن زهرة تذبل على أغصانها، تموت شيئاً فشيئاً، لا لشئ إلا أنها فقدت أعزّ عناصرها، التي هي بالنسبة للطالب، ثقته في نفسه، المسؤول عنها أبويه في المقام الأول.

يظل الابن منشغلاً طيلة العام بالقيل والقال، "ابن الجيران حصل على أكبر مجموع، عقبالك يابني، آه لو مجبتش زيّه هنعمل فيك ونسوي، شايف الزغاريد ياوله.. اجدعن بقي، الحقوا الواد ابن الجيران التاني سقط وشنق نفسه...."، مشاهد ومآسي وأقاويل لا حصر لها، لا تنتهي في دنيا الكلام و"الكلامنجية"، يذهب معها الابن إلى غير رجعة، ينتهي به الحال بالانحسار في دائرة ما يقوله الأب والأم، ونظرات ترقب الجيران، لجلده آخر العام، إن لم يتخلص هو من حياته.

يا أيها الآباء الكرام، إنّ أهم خدمة جليلة تقدمها لابنك في هذه المرحلة، وفي كل مرحلة، إذا أردتم نجاحه وفلاحه، ونجاحكم وفلاحكم، تقويته بذاته، اجعلوه يؤمن بنفسه، زودوا إحساسه العميق بأنكم تقبلانه في كل الأحوال وفي كل الأوقات، مع بث جرعات الأمل والتفاؤل، وإلقاء النصائح بطرق لا يشعر فيها بانتهاء وانقطاع شعاع الأمل، وأن النار تحوطه من كل جانب.

إنّ نجاح الابن الحقيقي لا يكمن أبداً في المجموع الذي سيحصل عليه، أو الكلية التي سيلتحق بها، إذا كان كارهاً لها، اجعله يتصالح مع ميوله ورغباته أولاً، تحدث معه عبر حوار محفوف بالحب والحنان والاحتواء، دقق في ألفاظك جيداً مع الابن، ولا تتحدث معه بطرق الإملاء، وراعي حالته المزاجية وشعوره، ولا تأمره أن يحصّل مجموع معين، كي يدخل كلية كذا أو كذا، أو إرادة في تقليد فلان أو فلانة، ولكن سددها له بطرق ذكية، تحافظ لك على آدميته، كي لا تصطدم بشبح دون روح، يُهلكك كما أهلكتَه.

أيها الآباء، نُقسم لكم أن الجميع قد استوى ببعضه، وأن الواقع ليس كما تظنون، فكلية الطب التي تريدانها لابنكما وبناتكما على سبيل المثال، تتحدث الدراسات أن الكثير من طلابها يعانون من أمراض نفسية ويرغبون دائماً في الانتحار، فبحسب دراسة أجرتها المجلة الطبية البريطانية، نُشرت عام 2015، أوضحت أن 30 % من طلاب الطب يتلقون علاج لبعض الأمراض النفسية، وأنّ 15 % منهم فكروا في الانتحار.

دراسة أخرى قامت بها مجلة الجمعية الطبية الأمريكية، نشرتها صحيفة "سود دويتشه" الألمانية في 2017، أظهرت أن أكثر من 27 % من طلاب الطب يعانون من الاكتئاب، أو يعانون أحياناً من أعراض الاكتئاب، وأن 11 من كل 100 يفكرون بالانتحار، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الدراسة أجريت على نحو 130 ألف طالب من 47 دولة حول العالم.

إذا كانت الأرقام هكذا في الدول المتقدمة، فما بالكم بواقعنا الأليم، الذي يشهد بنفسه على حاله، وأعتقد أنكم سمعتم قبل أيام عن طالبة طب المنصورة، التي انتحرت بعد أن تناولت قرص غلال سام، إثر إصابتها بحالة نفسية سيئة، هذا بالإضافة إلى كوارث خيانة المهنة الأسمى، من أطباء لا يهمهم إلا جمع الأموال، وإن تاجروا في أعضاء البشر، وقطعوهم إرباً إربا،....اتركوا أبناءكم، لا ترغموهم على فعل شيء يتعدى حدود صبرهم وطاقاتهم، فكم من عالم أضاء الدنيا، ولم يكن له نصيب من التعليم الذي نعرفه وتعرفونه.

أتذكر أنني كنت أرغب في دراسة اللغة الإنجليزية أو الفرنسية بكلية اللغات والترجمة، ولكن القدر حال بيني وبين هذا، فترشحت غصباً بالقسم الفارسي بنفس الكلية، مشهد ظللت معه حزيناً، لا أعرف إلى أين سيسوقني القدر، بعد مكوثي في البيت لعام كامل، رافضاً الدراسة في هذا القسم، بعد استنفاذ طاقتي ووقتي وفشلت في التحويل إلى قسم آخر، نتيجة إغلاق باب التحويل وقتذاك.

مرّ هذا العام، وذهبت للتحويل مرة أخرى إلى قسم الفرنسية أو الإنجليزية، واجهت الفشل ثانية، فما كان منّا أنا وزميلين من زملائي، اللذان ظهرا لي فجأة دون ميعاد، باقتراح دراسة الإعلام، ولم أكن أعلم بأن الأزهر يدرس الإعلام أصلا، التحقنا بقسم الإعلام الذي كان يتبع كلية اللغة العربية حينها، وتحول بعد ذلك إلى كلية منفصلة، وحصلنا على بكالوريوس الإعلام، وها أنا بين أيديكم أكتب لكم، راضياً سعيداً بهذا لأنني وجدت كياني وإرادتي وموهبتي في هذه المهنة، عبر الصدفة البحتة، وإن كان الإعلام واقعه صعب كغيره، فلا تحزن فاختيار الله أجمل وألطف دائماً.