د. رشا سمير تكتب: امرأة بمذاق الانكسار

مقالات الرأي



كانت مثلها مثل باقى الأطفال، تنتظر قدوم الربيع لتورق الزهور من بين أصابعها وتنتظر الصيف لتستمتع بالبحر ولتبنى قصورا من الرمال على شواطئه.

ثم أصبحت بين يوم وليلة مثل باقى المراهقات، تحلم بالكعب العالى والشعر المتهدل على ظهرها وأحمر الشفاه الصارخ فى الحفلات.

فريدة.. فتاة من أسرة متوسطة الحال، نشأت بين أب محاسب قانونى فى إحدى الشركات وأم تعمل مُوجهة لغة عربية بإحدى مدارس اللغات المحترمة وهى المدرسة التى التحقت بها فريدة نظرا لأن وجود الأم كمُدرسة فيها منحها تخفيضا كبيرا على المصاريف الباهظة فى وقتها.

فريدة ابنة وحيدة ليس لها أخ ولا أخت، العائلة بالنسبة إليها كانت فقط الأب والأم.. تعلقت بهما وكأنهما الدنيا.. فلا يأتى الربيع إلا لو أمرته الأم بالحضور ولا يسطع القمر إلا لو أعطاه الأب الضوء الأخضر ليسكن لياليها.

لم تتأقلم بسهولة مع الأطفال فى مثل سنها لأنها كانت شخصية انطوائية بطبعها، بعيدة عن المخالطة وتخشى الاندماج فى مجتمعات تبدو غريبة عنها.. لكنها كانت مجتهدة وذكية ومن أوائل الطلبة طوال الوقت.

فلم يكن لها من الدنيا إلا صديقة واحدة.. هى سرها ونصفها الآخر وأختها التى لم تشاركها الاسم لكن شاركتها لحظات السعادة والأسى.

لم تكن العلاقة بين أبيها وأمها مستقرة بشكل أو بآخر.. فالأب يكدح طوال اليوم راض بما قسمه الله له.. والأم متطلعة، طموحة، لا تكتفى بما لديها، تحلم بحياة أخرى وفى بعض الأحيان ربما بزوج آخر.. فالرجل الهادئ المستكين عادة ما يكون مصدر ملل لزوجته!.

فى خضم إحدى المعارك الزوجية المتكررة، طلبت الأم الطلاق وأصرت عليه فوافق الأب المغلوب على أمره دون أن يُملى شروطه.

ترك الأب البيت لفريدة وأمها حتى لا يزعزع استقرارهما، وظل يرسل إليها المصروف فى حدود إمكانياته.. والزوجة مازالت تتذمر وتشكو من ضيق اليد والابنة ترقب الموقف وهى حائرة خائفة تدعو الله ألا يكون هناك المزيد من المفاجآت فى الطريق.

ولأن الرياح دائما تأتى بما يُطيح بالسفن.. فبعد شهور من طلاقها تعرفت الأم على رجل أعمال أرمل وله طفلة واحدة، يمتلك من المال ما يستطيع أن يأتى به لابنته المدللة بأم بحسب شروطه.. ويوم تعرف على والدة فريدة كان شرطه الوحيد أن تأتى الزوجة الجديدة بمفردها، حتى لا يتسبب وجود الطفلتين معا فى بيت واحد إلى إثارة الغيرة والحقد بينهما.

وبعد تفكير لم يستغرق أكثر من أسابيع.. قررت الأم أن تترك فريدة مع أبيها بحجة أنها ضحت كثيرا وأنه قد آن الأوان أن تفكر فى نفسها.

تزوجت من رجل الأعمال، ثم بعد شهور قليلة انقطعت صلة الأم بفريدة للأبد التى تلقت أقسى صفعة من الممكن أن تتلقاها فى حياتها.

باتت وحيدة بلا أم، بنصف قلب ونصف عقل ونصف أسرة.

استقوت بأحزانها.. وتمسكت بأحلامها.. وقررت أن تخطو خطوات للأمام.

تخرجت فى جامعة القاهرة بتقدير عام امتياز وتخصصت فى التسويق والإدارة.. لم يكن هناك أسهل من أن تجد عملا يليق بقدراتها العقلية، أما قلبها فقد أغلقت عليه الباب ورمت المفتاح للأبد.. فهى لن تدخل أبدا فى صراع بين عقلها وقلبها.. لن تعيد كرة ما فعلته أمها التى تزوجت ثم أنجبت طفلين من زوجها ونسيت ابنتها الأولى ونست عمرا قضته معها حين انتقلت إلى حى الزمالك.

حاول أبوها أن يقنعها بالزواج.. لكنها رفضت.. لمجرد الخوف من إعادة نفس السيناريو الذى كتبته أمها من قبل.

كان النجاح حليفها فى العمل ولمع اسمها فى سماء المال والأعمال، إلا أن فوجئت بتليفون يرشحها لحقيبة وزارية.

استيقظت لتجد نفسها امرأة بدرجة وزيرة.. امرأة فى فراش السُلطة.

مرت الأيام، ثم تعرفت عليه فى إحدى جلسات البرلمان.. نائبا تحت القبة قدم استجوابا ضدها وجاءت لترد عليه.

أشار إليها بألف إصبع اتهام ورفضت هى كل الاتهامات، وبكل لباقة وبالمستندات وبقوة متناهية برأت ساحتها ودافعت عن الوزارة التى تمثلها.

انبهر بشخصها واندفع لاهثا وراء أنوثة ناعمة حاولت اخفاءها وراء قناع السياسة الخشن.

تكررت لقاءاتهما بين أروقة البرلمان والمؤتمرات وساحات الجدال.

إلى أن اعترف لها بحبه.. حاولت أن تتملص، وأن تهرب، لتتمسك ببقائها على الشاطئ حتى لا تبتلعها دوامات العشق.. فلم تنجح.. فقد انساق قلبها وراءه.

حكت له عن أمها التى تركتها من أجل رجل آخر، وأقسمت له إنها لن تصبح أبدا نسخة مكررة منها، وإن الزواج بالنسبة إليها هو العمر الباق والحُضن الذى لن تبرحه حتى آخر العُمر.

تزوجا.. وأنجبا توأما أصبحا هما مصدر سعادتيهما.. لم يعطلها الإنجاب يوما عن ممارسة عملها كوزيرة، ولم تمنعها الوزارة عن أبنائها الذين وجدت معهما الأيام التى انفلتت من بين أصابعها وهى بعيدة عن حُضن أمها.

كانت تقضى كل دقيقة خالية فى الاهتمام بهما والاستمتاع باللهو معهما.

خمس سنوات غيرت الكثير وأضافت الكثير إلا أن بدأت تشعر أن شيئا ما قد انكسر بينها وبين زوجها.. شىء تشم رائحته فى أنفاسه وتسمعه فى صوته وتراه فى كل تصرفاته.

شىء قاتم اللون.. حزين النغمة.. صارخ التفاصيل.

إنه يخونها.. يخونها مع صديقة الطفولة التى اقتسمت معها الذكريات والأحلام والحكايات.. ويبدو أن الوقت قد حان لتقتسم معها زوجها!.

لم ترهما بعينيها لكنها سمعتهما بقلب ملتاع.. لم تضبطهما متلبسين ولكن اغتالها القهر وهى تتخيلها تتآوه بين ذراعيه.. لم تفتح الباب لتجدهما فى فراش الهوى لكنها بمشاعر الأنثى ضبطتهما معا ألف مرة .

قررت أن تُصارحه وأن تقاطعها.. لكنها لم تجرؤ على فعل الأولى ولا تمكنت من فعل الثانية.

ضعفها تغلب على كرامتها.. وماضيها قتل شجاعتها.. وصورة أمها وهى تلملم حقيبتها لترحل وسط دموعها التى انسابت لتستعطفها باتت تطاردها كل ليلة وتمنعها من اتخاذ القرار بالرحيل.

تلك الصور ظلت هى المانع لها دائما كلما أرادت أن تثأر أو أن تثور.

هل تهدم بيتها؟ هل تترك أبناءها وترحل؟ وماذا عن وضعها السياسى؟ وماذا عن خصومها الذين ينتظرون مثل الصقور سقطاتها لينقضوا عليها ويصنعون منها ألف حبل مشنقة يلفونه حول مستقبلها السياسى؟!.

اكتفت بأن تبتعد عن صديقتها وأن تتحجج حتى لا تراها.. واكتفت أن تهرب من لقاء زوجها.. بحجة الإرهاق مرة والانشغال آلاف المرات.. فخيانة الزوج لزوجته تقتل أنوثتها وترتحل بها إلى أرض بور تجف فيها مشاعرها وتذبل زهورها، فلا تجد الماء لترويها ولا السماء لتظللها.

ثم.. اعتادت طعم الخيانة ورائحتها.. حتى بعد أن انتهت قصته مع صديقتها، فإذا به يكتب آلاف القصص مع أخريات، فقد تعود الخيانة أو ربما احترفها.. وتعودت هى بالمثل أن تشاهد وتسمع وتصلها الأخبار من الرفاق والزملاء والأهل.. وهى صامتة.

لم تحاول الإنكار ولكنها حاولت أن تغض بصرها.. فأبدا هى لن تُعرض توأمها لما تعرضت له من مشاعر الهجر بعدما تركتها أمها.

طفولتها حفرت بداخلها عُقدة لم تستطع أن تتخلص أو تتملص منها.

بين ليلة وضحاها، لم تعد تقوى على المزيد من الصمت.. وقررت أن تُطلق الرصاصة.

«أعرف أنك تخونني.. وأعرف قائمة بأسماء كل من أقمت علاقة معهن.. وأعرف عنوان الشقة التى تلتقى فيها بهن»

رد بكل برود:

«أعرف أنك تعرفين.. هل أعماك غرورك عن أن تتوجعين لكرامتك يا معالى الوزيرة.. لقد أهملتينى وأصبح كل همك إنجازاتك السياسية التافهة وصورتك أمام الناس».

«إذن فأنت تغار من نجاحى؟!»

ضحك وقال:

«إذن أنا لم أعد أرى فيك المرأة التى تزوجتها.. أراك شخصية مريضة تتمسك بالسُلطة حتى لو على حساب كرامتها.. ربما لو ثأرت لنفسك لكنت أجبرتينى على التراجع ولكن خنوعك دفعنى للبحث عن المرأة القوية التى لم أجدها فيك.. الخنوع لا يليق سوى بالإماء يا معالى الوزيرة».

أسقط فى يدها.. وكأنه نزع عنها ثيابها فوقفت عارية أمام المرآة لترى عيوبها بوضوح ودون تجميل.

جرت إلى غرفة أولادها تحتضنهما وتبكي.. تبكى ضعفها واستسلامها.. تبكى طفولتها الممزقة وأنوثتها المجروحة.

فى تلك اللحظة دق هاتفها المحمول.. ردت، لتسمع على الطرف الآخر صوت يقول:

«كثر اللغط حولك وأداؤك لم يعد مرضى عنه.. سوف يتم الإطاحة بك فى التعديل الوزارى القادم».

وكأن الحياة قررت أن تُسكر فى وجهها كل الأبواب لتفقد كل شىء.. العشق والكرامة والمنصب.

باتت ليالى فى فراشها تتقلب ولا تسكن عيناها النوم.

فى فجر كل يوم تتخذ قرارا بالرحيل.. وتفكر ألف مرة فى الطلاق.

وحين تتوسط الشمس كبد السماء.. تُعدل عن قرارها.

عاشت بين أصابعه.. وعاشت بين جدران بيته على الرغم من رائحة الخيانة التى زكمت أنفها.

عاشت حتى لا تصبح صورة من أمها. عاشت وهى جثة هامدة. عاشت وهى تموت فى اليوم ألف مرة.

عاشت امرأة مذاقها الانكسار.