د. نصار عبدالله يكتب: إرهاب أم عدالة؟

مقالات الرأي



القوانين التى تفرض عقوبة وجوبية سالبة للحرية فى جرائم الكتابة والنشر هى فى جوهرها شكل صارخ من أشكال الإرهاب الذى لا شك فيه، ولا ينفى كونها أفعالا إرهابية أنها قد اتخذت شكل قوانين صادرة من سلطة مختصة دستوريا بالتشريع، كذلك فلا يقلل من الطابع الإرهابى لتلك القوانين والتشريعات أن العقوبات التى تصدر بمقتضاها تنفذ وفقا لأحكام نهائية يصدرها قضاة عادلون، لا يملكون بمقتضى واجبهم المهنى إلا أن يلتزموا بما تنص عليه جميع القوانين، سواء فى ذلك ماهم مقتنعون به، أو ماهم غير مقتنعين، وفى الحالة الأخيرة فإنهم يلتزمون على مضض، وبالمناسبة فإن تعبير «الالتزام على مضض» مقتبس من الحكم الشهير الذى أصدره عبدالعزيز باشا فهمى أشهر رئيس لمحكمة النقض فى القرن الماضى فى قضية مقتل مأمور مركز البدارى، عندما أيد الحكم بإعدام القاتل «الضرس أحمد جعيدى»، مسجلا فى حيثيات حكمه أن المحكمة تؤيد الحكم على مضض! (لأن المأمور فى رأى عبدالعزيز باشا كان يستحق ما هو أكثر من القتل لو أننا احتكمنا إلى حكم الضمير المجرد بعيدا عن نص القانون المكتوب، لكن النص المكتوب هو للأسف ما يتوجب تطبيقه!)، وأعود إلى القوانين السالبة للحرية فى جرائم الكتابة والنشر والتى سبق أن وصفتها فى أكثر من عمود سابق بأنها جريمة فى زى قانون، أعود إليها لكى أضيف أنها ليست جريمة فحسب، ولكنها جريمة ذات طابع إرهابى، لأنها لا تستهدف إيقاع الأذى بشخص أو بأشخاص محددين بالذات، ولكنها تستهدف إرهاب وترويع أكبر عدد ممكن من المعبرين عن ضمير الأمة ممن أخذوا على عاتقهم أن يتصدوا للفاسدين والمفسدين ومزيفى الوعى وممارسى التمييز الطبقى والوظيفى وأحيانا العرقى وإن اتخذ أشكالا مقنعة متخفية تحت أسماء تحاول أن تجعلها مقبولة إنسانيا، وليس أدل على الطابع الإرهابى لتلك التشريعات من أن آثارها ما طالت نماذج من أنبل من حملوا القلم ومن دافعوا عن الرأى بل إنها قد نالت فى إحدى الحالات شيخا من شيوخ الكتابة فى مصر، عاش حياته كلها يتفنن فى كيفية تحويل العبوس إلى ضحك!! عاش يتفنن فى كيفية زرع الابتسامة وتثبيتها بشكل طبيعى دون أن يلفظها الجسم المصرى، بعد أن أصبحت البهجة عضوا دخيلا على كيان الغالبية الغالبة من أبناء هذا الشعب الذى يكاد يقتله القهر وهو يرى ما يرى دون أن يجرؤ على فتح فمه، هذا العبقرى الساخر هو الراحل محمود السعدنى الذى صدر ضده يوما قبل رحيله حكم بالحبس لأن واحدا من أولئك الذين يتصورون أنهم قد خلقوا من طينة تسمو على طينة البشر (لأنه كان يشغل منصب النائب العام) أحس بأن قلم محمود السعدنى لم يكتب عنه بالتبجيل والاحترام الواجب ومن ثم فقد صدر الحبس بحكم السعدنى إعمالا لواحد من تلك التشريعات التى أصدرها فى غفلة من الشعب أصحاب السلطة والنفوذ والأموال المشروعة وغير المشروعة بعد أن نجحوا فى اغتصاب المقاعد التشريعية من أصحابها الحقيقيين، وأصبح كل همهم بعد ذلك هو إرهاب كل من يفكر فى فتح فمه!، وبالإضافة إلى شيخ الصحافة الساخرة محمود السعدنى، فقد طالت تلك التشريعات الكثيرين من أرباب الفكر والفن والقلم، كان من آخرهم الكاتب الدكتور عبدالحليم قنديل الذى صدر ضده فى العام الماضى حكم بالحبس تم تأييده فنفذ الحكم، وحبس الدكتور عبدالحليم، وظل فى حبسه شهورا كان يمكن أن تستمر لولا أن صدر فى الأسبوع الماضى قرار رئاسى بالعفو عنه الصحى عنه، كذلك فإن من بين من طالتهم الدكتور جابر عصفور الذى صدر ضده حكم بالحبس لمدة عام مع وقف التنفيذ لاتهامه بالإساءة إلى إحدى السلطات التى يتصور المنتمون إليها أنها أسمى من سائر السلطات الأخرى!! والواقع أن هذه التشريعات (المصرية) لا تختلف كثيرا فى طبيعتها الإرهابية عن القوانين والقرارات التى تقوم بإصدارها أمريكا وإسرائيل فى مواجهة أصحاب الحق حيث تحاول كل منهما أن تنفى عنها صفة الإرهاب والجريمة بمقولة إنها قرارات صادرة من دولة ذات مؤسسات فى حين أن الجريمة فى رأيهما لا تصدر إلا من الأفراد أو الجماعات خارج نطاق الدولة (أى: من أصحاب الحق المهضوم!)، هل كلما قلنا إننا قد وصلنا إلى القاع فى مجال محاربة حرية الرأى تبين أن هناك الكثير مما يمكن أن نهبط إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله.