طارق الشناوي يكتب: (ألم ومجد) تحفة ألمودوفار تنتظر السعفة الذهبية!

الفجر الفني

بوابة الفجر


البعض يراها سيرة ذاتية لبيدرو ألمودوفار، إلا أنها أخذت ومضة من الحياة اتكأ عليها، لتُصبح شباكًا يُطل به على دنيا جديدة لم يعشها بكل أبعادها، ربما كانت فقط قابعة فى اللاوعى.

المخرج الإسبانى بين الحين والآخر يفعل ذلك من خلال اقتناص لحظة من الماضى، إلا أنه لا يلتزم أبدا بالبقاء داخل السور الذى تفرضه عليه الحقائق، التى نسجت تفاصيل حكايتها وحبكتها، ولهذا كثيرا ما يحلق بعيدا، ليضيف أو يحذف، وهو قطعا لا يخجل أو يدارى شيئا، بل فقط يبحث عن الصدق الفنى، وفى إجابة موحية عندما سألوه عن فيلمه الأخير (ألم ومجد) المشارك داخل المسابقة الرسمية فى (كان)، قال: أحيانا تسكب حياتك فى قصة، ولكن عندما يبدأ الخيال تحصل على شىء آخر، والشريط السينمائى هو هذا الشىء الآخر.

الفيلم بطولة أنطونيو باندرياس وبينلوبى كروز، ويدور بين زمن الطفولة، حيث يروى المخرج علاقته مع أمه ومعاناة الطفولة، ثم ينتقل للزمن الحالى وما يعيشه من واقع ومشكلات تحول دون التعبير عن نفسه كمبدع، المثلية الجنسية والتعاطى والبوهيمية، مفردات رسمت معالم شخصيته، يقدمها لمجتمع لا يصدر معايير أخلاقية فى الحكم على الناس.

إنه يروى عن تجربته السينمائية وحياته الشخصية متلاعبا بالزمن والانتقال بين نحو نصف قرن صعودا وهبوطا، الشريط السينمائى، الذى أعاد الاطمئنان لعشاق (الفن السابع) بأن المهرجان الذى تجاوز نصف أيامه حتى كتابة هذه السطور، ولم يمنح عشاقه ما يستحقون من ترقب، ولكن الإسبانى الكبير سبعينى العمر فعلها، الكبار عندما يشاركون فى التسابق، يصبح أملهم مضاعفا، خاصة أنه سبق له التنافس أكثر من مرة ورشحه النقاد للسعفة ولم ينلها، بينما حمل الأوسكار، وقبل عامين فقط شغل موقع رئيس لجنة التحكيم فى (كان)، والجميع كان يترقب إعلانه للجوائز، هذه المرة هو الذى يترقب، مهما كان المخرج لديه تاريخ ونجاحات فإنه يرنو للجائزة مع 19 مخرجا كل منهم يحدوه نفس الأمل.

ألمودوفار كان من المفترض طبقا لما أرادته له العائلة أن يسلك الطريق الدينى، هكذا كانت خطة البداية عند إلحاقه بمدرسة دينية، ولكن نداهة السينما والتى تنادى دوما على مجاذبيها اختارته محققا نحو 20 فيلمًا فى مشواره، وكان قادرا دوما على التجدد، ليصبح تاريخيا ومع الزمن وتراكم النجاحات هو ثالث مخرج يضع إسبانيا على طريق العالمية، وأصبح اسمه هو المرادف لسينما الوطن، بل للوطن كله، فعلها قبله كل من لويس بانويل ثم كارلوس ساورا، وألمودوفار هو ثالثهما.

دائما ستلمح صخبًا فى الدراما والموسيقى وألوان الإضاءة والديكور، فهو يميل كأسلوب فنى إلى خطف عين وأذن المتفرج قبل أن يحقق الهدف الأهم وهو سرقة مشاعره.

يروى الشريط حكاية المخرج عندما يقع فريسة الإدمان بسبب الإحباط، فهو فى لحظة فارقة من عمره أصيب بمتاعب صحية حالت دون استمراره على الخريطة الفنية، بينما هم يريدون تكريم أحد أفلامه القديمة، الذى لم يكن راضيا عنه ولا عن أداء البطل، وهكذا تتدخل الدوائر الزمنية وفى السيناريو، تحضر دائما فى المقدمة الأم بينلوبى كروز وهى، كما يبدو دائما، الأكثر تأثيرا فى حياة المخرج على المستوى الواقعى، وهكذا جاء المشهد عبقريا فى اللقطة الأخيرة التى تحسم الجدل بين الشريط السينمائى والحياة، عندما تتراجع الكاميرا فى مشهد نرى فيه الأم تنام على الأرض بينما تترك مكانها على السرير لطفلها، ونكتشف عندما يتسع (الكادر) أن تلك هى لقطات داخل الفيلم الذى يجرى تصويره، بينما يؤدى باندرياس دور ألمودوفار فى تلك المرحلة العمرية، وهو قطعا من أكثر الأسماء التى حققت حضورا طاغيا فى السنوات الأخيرة عالميا، ولم يكن أبدا صورة من ألمودوفار فى الأداء، ولكنه وقف دراميا أمام شخصية تتحرك وفقا لقواعدها الصارمة.

الفيلم لا يتخلى أبدًا عن تلك النظرة الساخرة، البطل مثلًا يخضع لمشهد الأشعة المقطعية ودخوله فى الجهاز الذى يرسم تفاصيل الجسد، يقدم هذا المشهد أقرب لقطعة موسيقية صارخة فى لمحاتها.. مشهد آخر عندما يتصل به منظمو الحفل لحضور التكريم بينما هو بسبب فرط اللامبالاة وشم الهيروين يقرر الاعتذار، صوت المخرج وهو يتعاطى الجرعة عن طريق أنفه يستمع إليه الجمهور فى الصالة، وذلك عندما يقرر مذيع الحفل بعد استئذانه أن يستمع منه إلى كلمة يلقيها للحاضرين.

اللعب بالزمن الماضى والحاضر أحد مفردات ألمودوفار الدائمة فى السينما التى يمارسها ببراءة الأطفال وبكم من الدهشة تبدو دائما على الشاشة طازجة وحميمية، فهو لا يحكى فقط حكايته، بل سيجد المشاهد تفرج أيضا على الشاشة جزءا من حكايته، وإن اختلفت بعض التفاصيل!!.