د. رشا سمير تكتب: كيميا

مقالات الرأي



طالما كتب التاريخ عن أشخاص جوهرهم الوهن ليضفى عليهم صفة العظمة، وطالما نزع الفتوحات من أصحابها لينسبها إلى قُطاع الطرق..

طالما مجدَ التاريخ محاربين عزفوا عن خوض المعارك..وطالما اقتسم الغنائم مع من هابوا الانضمام لصفوف الثوار.. وربما نسب الإبداع إلى المفلسين والانتصارات إلى المهزومين والإنجازات إلى السفهاء..

تلك هى الحقيقة البعيدة عن الصورة المزيفة التى يُكتب بها التاريخ، فهناك من أنصفهم التاريخ وهناك من ظلمهم ولا أحد يدرى حقيقة الفعل إلا من عاصروا تلك المراحل، أما من جاءوا بعدهم ليكتبوه فهم مجرد متربحين!.

تلك هى الفكرة التى -بحسب ظنى- بنى عليها الكاتب وليد علاء الدين روايته (كيميا) الصادرة عن دار الشروق للنشر فى 233 صفحة من القطع المتوسط بغلاف مُعبر للشاب الموهوب عمرو الكفراوى..


1- "كيميا" من شافاق إلى مفروى:

الحقيقة أننى كتبت من قبل عرضا صحفيا لروايتى (قواعد العشق الأربعون) للتركية المبدعة إليف شافاق، و(بنت مولانا) للروائية الإنجليزية مورل مفروى..

وأشرت إلى أنه من الذكاء أن مفروى التقطت طيف كيميا من بين سطور شافاق لتنسج منه نصا أدبيا، وهنا فى رواية (كيميا) يلتقط الكاتب وليد علاء الدين نفس طرف الخيط من زاوية أكثر عمقا لسرد القصة التى توارت خجلا بين صفحات التاريخ..

الرواية تبدو جاذبة لمن يعرفون حياة الرومى وعلى دراية بالفعل بالشخصيات التى عاشت بجواره أما بالنسبة لمن لا يعرفون الحكاية فهم مضطرون أولا إلى البحث قبل الدخول فى تفاصيل الرواية..

الكاتب يلقى الضوء على شخصية عاشت وماتت مُهمشة على الرغم من أنه كان من المفترض أن تحتل مساحة أكبر فى حياة وقلب من عاشروها.. حتى إنه حين وصل إلى قبر جلال الرومى وجد حول قبره قبورًا عديدة لأزواجه وأبنائه وجيرانه وأحبابه، لكنه لم يجد قبر (كيميا) وعندها سأل المرشد السياحى، فاجأه بالقول: «لم يكن لها قيمة!».


2- بداية الرحلة:

تبدأ الرواية بروح (علاء الدين) التى تزور الكاتب وتلعب معه لعبة مخيفة..

تخاطبه قائلة:

«أنا علاء الدين ولد وأنت وليد علاء الدين..إذن أنت مقلوبى فى هذه الدنيا، انتظرتك ثمانية قرون لكى تدُلنى على قبر (كيميا) التى اختطفوها منى وزوجوها لشمس التبريزى»

هنا يحزم القارئ حقيبته ويتبع الروائى فى كل خطوة يخطوها، منذ أن وصل إلى الفندق وحتى قونية ضمن الرحلة التى شارك فيها مع ثلاثة صحفيين أوفدهم المركز العربى للأدب الجغرافى من أبو ظبى، والمغرب، وفرنسا لتسجيل رحلاتهم فى مناسبة اليونسكو للاحتفال بعام جلال الرومى فى مئويته الثامنة..

يبحث القارئ مع المؤلف عن الحقائق ويقابل الشخصيات ويتفاعل معهم..يدور معه فى حلقات الذكر الصوفية ورقصة المولوية..

على مدار الرحلة تسقط الأقنعة عن أساطير زائفة وأسرار غابت طويلا داخل مقابر من رحلوا..

يلتقى الكاتب جلال الرومى وحاشيته ما بين الصحو والنوم..علاء الدين، سلطان ولد، شمس التبريزى، حسام الدين، كيرا خاتون..

أخيرا، وفى قونية يلتقى كيميا عروس الجن التى سحرته بضعفها منذ بداية القصة،

ويظهر حسام الدين الفتى الغامض فى حياة الرومى والذى أوحى له بكتابة المثنوى ليكون صاحب كتاب على غرار المتصوفة الكبار.

ويروى لأول مرة مؤامرة كيرا خانوم السيدة التى كان مولانا يعشقها ويرضيها بكل الصور والتى عقب دخول التبريزى فى حياته سرعان ما خمدت نار عشقه لها..والتى تصورت أن غياب التبريزى هو الحل لعودة وهج علاقتها بالرومى إلا أن غيابه زاد الرومى ألما وانطواء لدرجة دفعتها لوضع خطة جهنمية بديلة، حيث دفعت كيميا للزواج من شمس لتتخلص من سطوته على مولانا دون النظر إلى تبعية هذا الزواج!.

فى نهاية رحلته يصل الكاتب إلى ما كان يبحث عنه منذ البداية قبر كيميا، أو قبر قتيلة مولانا كما يحلو له أن يلقبها..

هكذا كشف الروائى الغطاء عن قسوة رجل ادعى عشق الله ووهب روحه من أجل الصفاء والجمال، فى حين أن دماءه مخضبة بقربان كيميا الذى قدمه بكل قسوة إلى التبريزى ليذبحها!.


3- سقوط الأسطورة:

كيميا فتاة فقيرة من بلخ التى نشأ بها الرومى، عاشت فى كنف مولانا الذى أسقط الكاتب عنه قناع التصوف..فدون النظر إلى فارق سن يصل إلى خمسين عاما يهديها الرومى إلى الدرويش الذى سرق لبه..هنا يُظهر جليا سخطه على الرجل الذى كان يهيم حُبا فى الله، والذى لم يفكر لحظة فى القهر النفسى والجسمانى الذى قد تتسبب فيه تلك الزيجة..

بحسب ما قاله الكاتب إن مفروى وشافاق قد وقعتا ببساطة يتعجب لها تحت سيطرة ماكينة صنع الأساطير وتبنت كل منهما رؤية صانعى الأسطورة ووضعتا كيميا فى زاوية العاشقة التى يولع قلبها عشقا بدرويش غريب الأطوار..

فى الحقيقة هنا فقط أختلف مع الروائى لأن قواعد العشق لشافاق لم تكن معنية إلا بالأبطال الرئيسيين للرواية وهما الرومى والتبريزى وفكرة الانتقال عبر زمنين لاستعراض قصة الحب بين بطلى الرواية فلم تكن كيميا تحت الضوء منذ البداية، أما مفروى فى بنت مولانا، فأراها أعطت كيميا حقها فى السرد لأنها كانت الشخصية المحورية فى الرواية والتى التقطتها بذكاء من بين سطور شافاق ونسجت قصتها بصورة استنتاجية بعيدة عن البحث، وعلى الأخص جزئية الحرمان التى عاشتها فى الزواج من التبريزى ولجوئها إلى مومس لتعلمها فنون العشق حتى تستميل زوجها العازف عن حبها!..


4- وهكذا:

بدا لى من خلال الوصف أن الروائى عاشق للتاريخ ومتمكن من السرد فى تلك المنطقة الوعرة..كما أن المراجع الكثيرة التى ذكرها الروائى فى نهاية القصة تدل دون شك على المجهود الكبير الذى قام به فى البحث والتدقيق.

صفحات أمتعتنى وأخذتنى إلى أماكن زرت بعضها وأخرى عشت تفاصيلها من خلال تلك الرواية التى أدعوكم لقراءتها.