كلنا عيلة واحدة.. مآسي اليمن تُخيم على أشهر مائدة رحمن في مصر القديمة (معايشة)

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


بعد انتهاء "بكر"، من جلسة العلاج الفيزيائي لظهره، بإحدى المستشفيات الحكومية بمصر القديمة، مكث داخل مسجد عمرو بن العاص، الذي بمُحاذاة مائدة الرحمن، الأشهر بالمنطقة، في انتظار رفع آذان المغرب، برفقة صديق رحلته من العاصمة اليمنية صنعاء إلى القاهرة، كعادتهم منذ بداية الشهر الفضيل، بعدما حدّت رائحة الطعام بالمكان، مُعلنة عن حل أزمتهم في تدبِير فطورهم "الواجبات الجاهزة غالية وظروفنا على قد الحال.. وما نعرف نجهز أكلات مطهية".






تراص الصديقان، الذين تركوا بلادهم منذ ثلاثة أعوام، عقب عام من الحرب المستمرة باليمن منذ أربع سنوات، حول منضدة خشبية مُتطرّفة عن باقي الطاولات، مُتراص عليها أكواب العصير وأباريق مليئة بالمياه، وبعض أطباق الخضروات والأرز والخبز، منتظرين نصيبهم من اللحمة الذي يقيم على توزيعها مجموعة من الشباب وكبار السن المتطوعين، ولكن حظّهم كان سيئًا، فخروجهم عقب رفع أذان المغرب من المسجد، حرمهم من تناول قطعتهم، مما جعل القائمين على المائدة يهرولون يسارًا ويمينًا كي يُطعمونهم "ما مهم نأكل لحم.. احنا كسرنا صيامنا ويارب يديمها نعمة"، يقولها صاحب الـ(55 عامًا)، وبيده عصير البرتقال، يحاول يسُد رمقَه به؛ لينقذ حاله من الجوع حتى وجبة السحور.






بينما صمت "صالح"، ولم يتنغّم بحرف، متواصلا في تناول الطعام، متقاسمًا مع أحباب الله-كما أطلق عليهم أبو يوسف صاحب المائدة، والذي حرص على استمراريتها طيلة (13 عامًا) عقب وفاة والده، لاسيما مع تزايد توافد العديد من شتى مناطق المحروسة سنويًا- وجباتهم لينهي فطوره بسرعة، كي يدخن سيجارته "الفطار بالنسبة لي ماي وشوية مرق علشان أعرف أدخن". شاخصًا بصره إلى لا شىء، وصمت برهةٍ ثم عاد يحكي عن ذكرياته على الفطور في شهر رمضان بمدينته صنعاء، قبل أن تشهد اشتباكات مسلحة، متمنيًا العودة إليها، خاصة في هذه الأيام الذي وصفاها بـ"فتحة خير عليه"، كونه يعمل في مجال تجارة البخور، الذي يحرص على شرائه العديد من الأسر.






خارَت حرارة الطقس رويدًا رويدًا بعد ارتفاع درجاتها منذ الأمس، وصاحب (53عامًا) ما برِح يتذكر أيام رمضان في صنعاء، وشكل مائدة الطعام الرادحةٌ بجميع أنواع الطعام المختلفة "بالرغم من أن الأكل كان كتير.. إلا أني أتمنى أكل طورشي ويعود الأمان بلدي وتتجمع لمتنا تاني"، خاصة أنه افتقد شقيقه الأصغر في الحرب الدائرة منذ أربع سنوات وتبعاتها تزداد يومًا بعد يوم، وأسرته تفككت، فهو يعيش مع صديقه اليمني بمصر بمفردهم، وأسرته نقلت إلى عدن لصعوبة سافرهم إلى مصر"جيت اتعالج.. والتواصل بينا على الواتس وأحيانا بينقطع التواصل"، ما يجعله طيلة الوقت يعيش في حيرة وقلق عليهم، لكن يحدوه الأمل كلما رأى روح المحبة واللمة بالمائدة التي شاركت في مسلسل "رمضان كريم" العام الماضي "حاسيس بدفء العيلة.. الكل بيساعد كأنهم أسرة واحدة".






يلتقط منه أطراف الحديث، صاحب المائدة-الذي يبدأ في تجهيز الطعام منذ الساعة التاسعة صباحًا، بينما يشرعوا في استعدادت الطاولات عقب أذان العصر-"أكيد كلنا عيلة واحدة.. بس المرة الجاية تعالوا بدري شوية"، ينادي عليها الحاج أحمد متوكل متابعة توزيع الواجبات، وبيده مُمتلئة بأكواب العصير والتمر، مشددًا على تناول الصديقان مرة أخرى "لازم تحلو بالتمر بقى"، فيدور بينهما حوارات ممزوجة بضحكات، قاطعها مؤذن المسجد بإقامة الصلاة، ليهرلون جميعهم لأداء فريضة المغرب، ومن ثم يعود صاحب المائدة إلى منزله لتناول الفطور مع أسرته بعد كسر صيامه فقط "ماينفعش ما أفطرش مع ضيوفي ولا أقدر أسيب عيلتي".






بينما تقبع إحدى الوافدات اليمنية على المائدة، مع نجلها ونجلتها داخل الجزء المخصص للسيدات بالمسجد، تنتهي من صلاتها وتشرع في فطورها بعد حصولها على ثلاث وجبات "بقالي 4 سنين بفطر هنا واتعودت خلاص عليهم"، تقولها السيدة الثلاثنية، بعد إطلاق تنهيدة طويلة، يتجلى من خلالها أنها تخجل تناول طعامها على طاولات الطعام، خاصة أن زوجها يرفض المجِيء معها منتظرها بالطعام "في الجامع كلنا سيدات.. لكن بره الناس كتير.. مولد"، وهو ما يحرص عليه أبو يوسف، توفير الطعام لبعض الأسر الكائنة في مناطق بعيدة "مائدتنا للكل حتى الأجانب بيشاركونا لقمتنا"، وهو ما يجعله يحدد ميزانية خاصة قبل أربع شهور من شهر رمضان، لاسيما عقب ما زاد عدد المواطنين في الثلاث سنوات الأخيرة، ولوحظ توافد بعض الأسر بأكملها مفترشين الأرض، فضلاً عن زيادة كميات الواجبات بداية من العشرة الآواخر لكثرة المعتكفين بالجامع "ربنا بيطرح البركة في الرزق.. ومانقدرش نقول للناس مفيش".