د. رشا سمير تكتب: أيام معه

مقالات الرأي



بحثت عن تلك الرواية طويلا ولم أجدها.. أتذكر أننى لمحتها يوما بين يدى أمى وكانت مُفضلتها.. ثم عدت أبحث عنها اليوم وفى عقلى ألف سؤال..

هل هى حقا قصة مُعاناة كل فتاة شرقية تقع فى الحُب؟.. أما هى قصة انتقام كل سيدة أعطت من نفسها لرجل ولفظها فى نهاية الأمر بعد أن هزمته شرقيته وعنتريته؟ أم هى سيرة ذاتية لكاتبة أحبت مُبدع فخذلها لتقرر بكل شجاعة أن تسطر تلك القصة دون خوف من أصابع الاتهام التى سوف توجه إليها؟..

وأخيرا أهدتنى الرواية صديقة سورية تفوح من عينيها رائحة الياسمين الدمشقى بعد أن استشعرت اهتمامى الشديد لاقتنائها، وأخبرتنى أنها سوف تأخذها منها.. تُرى من هى؟..

وصلتنى الرواية قادمة من سوريا وأنا أهلل لها مثل الأطفال.. التهمتها فى يوم واحد وكأن الجوع والشوق إلى قلم نسوى حقيقى كان قد أنهكنى طويلا.

تلك الرواية هى رواية «أيام معه» بقلم الشاعرة والروائية السورية كوليت خورى التى وصفها الكثيرون بأنها فرانسواز ساغان الشرق..


1- عشق بمذاق الكرز:

تدور القصة حول فتاة سورية مسيحية لم تبلغ العشرين من العمر تُدعى «ريم» تتعلق برجل أربعينى مسلم يُدعى «زياد مصطفى» وهو موسيقى مشهور..

ريم بحسب ما وصفتها كوليت، شابة جريئة لا تخشى المجتمع وتريد كسر الأصفاد التى يضعها المجتمع الشرقى فى أيدى النساء، تقرر ريم بعد وقوعها فى غرام زياد أن تتحدى كل الأعراف، فتجهر بعشقه وتعطيه من نفسها دون خوف لتقف فى وجه كل الانتقادات والاتهامات بشجاعة لم يفهمها الأهل أو الأصدقاء فى وقتها..

تقول ريم لأبيها:

«أنا لم أوجد فقط لأتعلم الطهى ثم أتزوج وأنجب أطفالا ثم أموت.. إذا كانت هذه هى القاعدة فى بلدى فسأشذ عنها، أنا لا أريد أن أتزوج.. أنا أريد أن أعيش حياتى، لا أن تُرسم حياتى».

قوبلت الرواية بعاصفة من الانتقادات، فقد صدرت طبعتها الأولى عام 1959.. صُنفت رواية جريئة ووضعت كوليت فى قفص الاتهام..

فالمعروف فى كثير من الأوساط أن كوليت كانت على علاقة حُب بالشاعر الكبير نزار قبانى، وقد اعترفت هى فى أكثر من حديث بذلك حتى إنها صرحت أيضا بأنها تحتفظ برسائله إليها وتنوى نشرها قريبا..


2- سيرة ذاتية أم تجربة أنثوية:

سكنتنى الرواية بصفتى امرأة أولا ثم روائية ثانيا.. فقد وصفت كوليت مشاعر المرأة بريشة المبدع.. تسرد وتحكى لتعصف بكل القواعد، فقد أدخلتنى مدن السحر بسردها المنمق الحالم..

ريم بطلة الرواية تُعطى حبيبها كل شىء.. تعطيه من روحها ومن وقتها ومن جسدها.. تُعطيه بصفة العشق وليس المنح.. فالمرأة هى أعظم مخلوق على وجه الكون خصه الله بصفة العطاء..

وكعادة الرجال.. وبغض النظر عن كون الرجل بائع فول أو شاعرا أو سياسيا، فهو فى المقام الأول والأخير رجل.. رجل تستدرجه رائحة الأنثى فيسير وراءها مسحورا ثم ينصب لها كل أنواع الفخاخ وحين تسقط فى قبضته ويلتهمها.. يدب الملل فى أوصاله ويشعر بأنه سجين جسدها.. سجين فى عشق المرأة الواحدة.. كيف وهو كائن يبحث عن التعددية!.

هكذا يمل زياد فى الرواية من ريم ويبحث عن أخرى.. وتشعر هى بفداحة الخسارة..

الخسارة لم تكن مادية بل كانت خسارة حسية.. فقد تهدم التمثال التى صنعته له.. وسقطت صورة القديس من فوق الحائط فتهشمت إلى ألف قطعة..

وباتت عبارة «أنا استطيع أن أغيره وأجعله يكتفى بى» عبارة خيالية لا وجود لها فى قواميس دنيا الرجال..

بحثت ريم عن الحُب وبحث زياد عن تجربة إضافية تُضاف إلى قائمة أمجاده العاطفية..

أعتقد أنه لولا أن تلك الرواية نُشرت فى زمان لم يكن مسموحا فيه للمرأة حتى بالبوح، فربما لو كتبتها كوليت اليوم لكانت المشاهد الحميمية بين البطلين احتلت الكثير من صفحات الكتاب، وهى المشاهد التى لم تُفصح الروائية عنهم فى قصتها، ربما لأنها تثير حنينا ما فى نفسها آثرت أن تُبقيه بداخلها، أو ربما لأنها كانت تخشى المزيد من النقد الذكورى.. العلم عندها وحدها.


3- صورة لألف وجه:

الرجال صنف واحد حتى لو تعددت الوجوه.. تلك هى خلاصة ما قرأته فى الرواية بعدما انسحب زياد بأنانية غير المتوقعة من حياة ريم لتعود إلى ألفريد خطيبها القديم..

وألفريد بحسب الرواية هو ابن ابنة عم والدتها المتزوجة بفرنسا بثرى كبير، يتكلم القليل من العربية ورسام من الطراز الأول.. فسخت خطبته عليها بعدما وقعت فى غرام زياد، ثم عادت إليه من جديد لتثبت لنفسها أنها لاتزال على قيد الحياة وأنها لاتزال قادرة على العشق..

كتبت تصف ألفريد فى لحظة حاول فيها أن يلتهمها مثل أى رجل عرفته:

«إذن ألفريد يتصرف ككل الرجال.. إنه مثل زياد.. يعتبر المرأة نبعا عذبا يشرب منه حين يشاء لا حين يفيض النبع، ويبتعد عنه حين يشاء، لا حين يشح النبع.. ويهيل عليه التراب حين يشاء، لا حين ينضب النبع.. كيف لا يفهم أن المرأة بحاجة إلى رعاية وعناية كى تُصبح نبعا فياضا يُعطى دائما حنانا وحرارة وحبا؟ كيف لا يفهم أنها وردة يجب أن تُسقى كى تغمر ساقيها بالعبير؟».


4- وقصت شعرها:

هناك قصة شهيرة روتها كوليت خورى فى قصتها «أيام معه» تؤكد على أن تلك الرواية حتى لو كانت واقع تعايشه كل نساء الشرق إلا أنه سيرة تخصها وحدها دون سواها من نساء.. كتبت على لسان ريم تقول:

«لقد مللت شعرى.. مللت تسريحه، لماذا أتعب نفسى فى مداراته وتصفيفه؟ أن زياد يحب شعرى، ولكن ألم يقل مرة منذ زمن بعيد أنه معجب بالشعر القصير؟ لماذا لا أقص شعرى؟!»..

وكان رد فعل زياد حين رآها أنه صرخ وقال:

«ماذا؟.. ماذا فعلت؟ ياإلهي! هذا جنون! ما أقبحك!.. ابتعدى.. وعودى إلى بعد سنة أو سنتين حتى يعود شعرك مثلما كان».

تلك هى سطور الرواية، ولكن ما تؤكده الدلائل أن تلك القصة حدثت يوم قصت كوليت خورى شعرها وفاجأها نزار قبانى بقصيدة عنوانها «آلا غارسون» يقول فيها:

«كيفَ اجْتَرَأتِ على جدار شَذَا زَمَنَ الشتاءِ بمرْسَلٍ جَعْدِ

وحصدتِ شَعْرَكِ.. وهو زَرْعُ يدى يا طالما شَهَقَتْ على زَنْدي

نَجْدَاً ضَمَمْتُ، ولا صَبَا نَجْدِ سقفى.. وبستانى.. ومدفأتى

وفِراشيَ المجدولُ من وَرْدِ لا تَقْرَبينى.. أنتِ ميِّتَةٌ

إنَّ السوالفَ مجدُها مجدى» هكذا أقر كل من قرأ الرواية أن ريم بطلة الرواية ليست سوى كوليت الكاتبة، أما زياد الرجل الذى أحبته فهو دون شك فارس النساء الشاعر نزار قبانى.

ترد كوليت: « أنا مزيج من كل بطلاتى.. أنا ريم فى «أيام معه»، ورشا فى «ليلة واحدة»، وسهير فى «ومرّ صيف»، وأسمى فى «أيام مع الأيام»..

ويرد نزار: « كوليت بالنسبة إلى هى دمشق!»..

هل كانت كوليت خورى أجرأ من شاعر المرأة وباحت بما خشى هو أن يسطر؟!..

ما ترامى إلى علمى من أصدقاء مقربين لهما أن نزار كان يعلم أنها تكتب قصتهما وأنه قام بقراءة النص قبل النشر وصححه.. ربما كانت تلك المعلومة صحيحة وربما كانت من نسج خيال أحدهم! فالحقيقة دوما فى كل العلاقات العاطفية تبقى للأبد فى صدور بطليها.


5- وقتلتها رصاصة العشق:

هل كان زياد حقا متحررا أم هو مجرد رجل شرقى تحكمه قيود شرقيته؟.. هذا السؤال تطرحه البطلة بالنيابة عن كل النساء وتحدد فيه صورة الرجل فى المجتمعات العربية.. الرجل الذى ينظر للمرأة كونها مُتعة له وحين يمللها.. يلقيها بعيدا بكل قسوة..

فى أحد المشاهد يقترب منها زياد ليحتضنها.. فترتعد وتُبعده عنها.. فيثور ويقول:

«تعلمى أنت كيف تكونين امرأة! أنت لست امرأة!».

تُمطرها قسوة الكلمات بوابل من رصاص.. فتتساءل فى نفسها بقلب مجروح عن معنى كلمة الشرف.. وتقول:

«قد يكون على حق، انا لا أعرف كيف أُقبل رجلا، ولا أعرف كيف استجيب لشهوة رجل، ولا استطيع أن أهب نفسى رجلا.. ولكن.. لماذا لاأستطيع؟!

أنا لست أمرأة لأننى شريفة.. ولكن.. هل أنا شريفة؟.. أنا التى أرافق شابا إلى السينما واستقبله فى بيتى.. أهذا لأننى أريد أن أحافظ على هذا الذى يدعونه «شرفا».. ماهو الشرف؟ هل لمعنى الشرف قيمة مطلقة؟ كلمة «شرف» لا تعنى شيئا بذاتها، المجتمع هو الذى يضع قيمة لمعناها.. لأن قاعدة الشرف فى بلادى تُطبق على أنا.. أنا الفتاة.. هو رجل وأنا لست امرأة!».

فى الحقيقة أن تلك الكلمة هى التى يستعملها كل الرجال فى قتل نساء العالم «أنت لست امرأة».. حين يقررون الهروب أو الخيانة.. لست امرأة!.

فى النهاية لا أملك سوى أن أقول شهادتى، فرواية «أيام معه» رواية شاعرية مكتوبة بلغة منمقة وراقية بعيدة عن كل ابتذال.. عصفت بى الكلمات وأنا أقرأها، وارتعدت كل مسامى حين دغدغتها حروف الحُب والغرام التى نسجتها الروائية مثل الدانتيلا لتصنع منها ثوبا من العشق..

تحية من القلب للروائية الشاعرة كوليت خورى.. تحية مُعطرة بالمحبة من أرض النيل إلى ابنة أرض الياسمين الدمشقى.. تحية إلى امرأة أحدثت ثورة بقلمها الشجاع.. لامرأة صنعت من الكلمات جسرا ممتدا لكل أجيال الروائيات من بعدها..

شكرا لك على الرواية التى أهديتينى إياها بكل الحُب..

وشكرا لك سيدتى الأديبة الرائعة على أيامُك معه التى هى فى الحقيقة أيامُنا جميعا.