د. نصار عبدالله يكتب: جاهين والأبنودي والمفارقة الغريبة

مقالات الرأي



كأنما كان صلاح جاهين وهو يرحل عن عالمنا عام 1986.. كأنه كان يومئ إلى صديقه (وخليفته بعد ذلك فى شعر العامية: عبدالرحمن الأبنودى) محددا موعد اللقاء القادم بينهما، كأنه كان يقول: فى 21 أبريل يا عبدالرحمن، وفى العام الذى ستختاره المشيئة الإلهية سوف نلتقى مرة أخرى.. ففى ذلك اليوم يا صديقى سوف تكون الزهور المصرية الجميلة كلها تقريبا قد تفتحت.. وسوف تتحول كل حقول مصر ومزارعها إلى باقات من الزهور، دعنا نوهم أنفسنا كعادة الشعراء، أو لعل الحقيقة فعلا كذلك، لعل الحقيقة أن هذه الباقات كلها ما اكتملت كما تكتمل فى ذلك اليوم إلا لكى تظلل مرقدنا حين نرقد فى هذه الأرض الطيبة.. ولم يكذب عبدالرحمن خبرًا ففى 21 أبريل عام 2015 وفى يوم شم النسيم فى ذلك العام.. أجل كان اليوم موافقا لعيد شم النسيم، وبعد أن أدى عبدالرحمن طقوسه السنوية المعتادة فى مثل هذا اليوم من كل عام أغمض عينيه وغاص عائدا إلى أحضان الأرض المصرية التى طالما تغنى مثل صلاح جاهين بها ولها ولكل عشاقها ومحبيها.. يومها.. كان رحيل الأبنودى مثلما كان رحيل صلاح جاهين قبل ذلك يمثل بالنسبة لملايين المصريين والعرب مصابا قوميا، وبالنسبة لى شخصيا كان رحيل الأبنودى بالإضافة إلى ذلك مصابا شخصيا خالصا، فبعد أن هجرت القاهرة بكل ما فيها من محافل ومنتديات ثقافية مؤثرا أن تكون إقامتى فى الصعيد.. ظل عبدالرحمن الأبنودى واحدا من الأصدقاء القليلين الذين بقيت معهم على تواصل حميم.. يتصل بى يوميا أو اتصل به ونظل نتسامر عبر الهاتف وكأننا كلانا مازلنا على عهدنا القديم فى القاهرة، كأنى لم أتركها لأقيم فى سوهاج ولم يتركها هو كذلك ليقيم فى الإسماعيلية.. نستعيد أحيانا ذكريات الماضى أو نعلق أحيانا على أحداث الحاضر.. ويحرص كل منا على أن يبدى رأيه فى المقال الأسبوعى الذى كان يكتبه الآخر فى صحيفة المصرى اليوم، بل لقد بلغ حرص الأبنودى على أن يستمع إلى رأيى فى مقاله، وصل إلى حد أنه استأذننى فى أن يتصل برئيس تحرير المصرى اليوم ( الأستاذ على السيد فى ذلك الوقت ) لكى يقوم بتغيير موعد نشر مقالى لكى يكون هو نفس اليوم الذى ينشر فيه مقاله، وعندما قلت له إننى سوف أقرأ مقالك يا خال عبدالرحمن أيا ما كان اليوم الذى ينشر فيه، صمم على أن يكون موعد نشر مقالينا فى نفس اليوم مبررا ذلك بأنه بذلك سوف يضمن ألا يفوتنى مقالاً أى أسبوع من الأسابيع، وعندما قلت له إننى ممن يستخدمون الإنترنت وإننى سوف أستطيع أن أرجع إلى المقال فى صورته الإليكترونية على موقع المصرى اليوم فى أى وقت حتى لو فاتنى أن أقتنى النسخة المطبوعة، قال لى إن هذا لن يكون بديلا عن التزامن، ذلك أن نشر المقالين فى عدد واحد من شأنه أن يبعث فى النفس إحساسا بأننا ما زلنا قريبين كعهدنا كما كنا دائما منذ خمسين عاما أو ما يزيد قليلا.. ولقد كانت إجابته تلك شأنها شأن الكثير من أحاديثه العادية تحمل ذلك النفس الشعري الصادق الذى لا يفارقه قط والذى كان واحدا من العوامل التى قربت بينى وبينه.. قلت له : فليكن الأمر كذلك.. ولقد نجح مسعى الأبنودى بما له من دلال على رئيس التحرير فى تغيير موعد مقالى، وأصبح كل منا فى يوم نشر المقالين يترقب مكالمة من صاحبه لكى يستمع إلى رأيه وعندما تتأخر المكالمة لسبب أو لآخر يبادر بالاتصال متسائلا عن سبب التأخير، وفى معظم الحالات كان عبدالرحمن هو الذى يبادر خاصة عندما بدأ ينشر مربعاته ذات الطابع السياسى بشكل يومى، ولم تكن تلك المربعات دائما على نفس القدر من الجودة الفنية التى عهدناها فى فن الأبنودى والتى نتوقعها منه، ولعله هو نفسه كان يشعر بذلك، ولهذا السبب لم يكن يصدمه أن أصارحه بالحقيقة عندما كنت أقول إن هذا المربع أو ذاك قد أفلت منه الصدق الفنى حتى إن كنا نتفق مع مضمونه السياسى، وحينئذ كان يكتفى بأن يقول لى: المربع اللى جاى حيعجبك.. ثم فاجأنى يوما بأنه سوف يجمع المربعات فى كتاب واحد وطلب منى أن أكتب له مقدمة، لكننى اعتذرت، فقال لى إنه يعلم سلفا بأننى غير راض عن بعض المربعات، لكنه لن يغضبه إطلاقا أن أكتب رأيى بصراحة، لكننى قلت له: ليس هذا هو السبب، ولكننى لست ناقدا متخصصا ولم أكتب مقدمة فى حياتى لمبدع قط مهما كان إعجابى بإبداعاته، فإذا كتبت لك المقدمة فسوف يفتح هذا بابا يستحيل علىّ قفله، واقتنع الأبنودى ولم يغضب وظلت علاقتنا على حميميتها.. تحية لذكرى هذا الصديق النبيل