طارق الشناوي يكتب: همس "القانون" وصخب "الطبلة"!

الفجر الفني

بوابة الفجر


على (النت) تتوق أذنى لتسجيل نادر لأديبنا الكبير نجيب محفوظ وهو يعزف على آلة القانون، اختار أستاذنا ما يعرف فى دُنيا الموسيقى الشرقية بقالب (البشرف)، أصابع الأستاذ تداعب برشاقة الأوتار التى تتجاوز السبعين، وكأنها خُلقت فقط للتعامل مع الوتر، قناعتى أن بداخل كل مبدع كبير موسيقارا كبيرا، حتى لو كانت مفرداته الحرف أو اللون أو الحركة، تعلم نجيب محفوظ فى شبابه العزف على أصعب الآلات الموسيقية، وأظن أن اختياره للقانون ليس عشوائيًا، فهو أُم الآلات الشرقية، يقابله فى الموسيقى الغربية (البيانو)، القانون فى فرق التخت الشرقى، (ترمومتر) القياس، مثل (البيانو) فى الأوركسترا السيمفونى، فهم يضبطون عليه أوتارهم، وهو ما يعرف بين أهل المهنة بـ(الدوزنة)، فهو حقا قانون، بل دستور لكل الآلات.


بينما الطبلة، وهى أشهر وأهم الآلات التى توصف علميا بالإيقاعية، لأن المساحات الزمنية الصامتة بين نقرة وأخرى تحدد سرعة سريان النغم، الطبول هى أكثر الآلات التى تُثير الانتباه، ولهذا تسبق عادة بداية التراشق بالسيوف أو النيران فى الحروب، لبث الحماسة فى قلوب الجنود، وهكذا يتردد كثيرا تعبير (طبول الحرب)، كما أنها أيضا تلعب دور البطولة فى الأفراح، تتصدر المشهد بوجهيه فى الحرب وفى الحب.

الحق يشبه آلة القانون، لأنه يخاطب الوجدان بهمس الإحساس، بينما الباطل من الممكن أن يُحاكى الطبلة، يسيطر على الموقف ويحتل الأذن بالإلحاح، هذا التقابل على المستوى المجازى منسوب للمطرب والملحن اللبنانى الكبير مارسيل خليفة، فهو صاحب تلك المقولة (حتى فى الموسيقى صوت الطبلة يعلو على صوت القانون).

لو زدت الدائرة اتساعا ونظرت لحالنا كعرب ستكتشف أن قضايانا عادلة، لكننا نخسرها تباعا، خذ مثلا الدفاع عن حق الفلسطينيين فى إقامة وطن لهم والعاصمة القدس، صوت القانون خافت، بينما إسرائيل استطاعت بطبولها الزائفة أن تحقق كل هذه الانتصارات الإعلامية، لأنها تجيد التواصل مع العالم وتمتلك القسط الأكبر من (الميديا).

كلمة (الإسلاموفوبيا) من الممكن أن نعتبر الغرب هم الذين يروجونها، تمهل قليلا، ألم يسئ البعض منا للإسلام بالعديد من الأفعال التى تتدثر عنوة بالشرع؟، يقتلون ويذبحون الأبرياء تحت مظلة يرفعونها على الشاشات، مدعين أن هذا هو الدين، وآخرها ما حدث فى (سريلانكا).

تابع أيضا فى الداخل، من الذى يحتل أغلب الفضائيات وأغلفة المجلات؟، هل الفنان الصادق صاحب القضية والموقف والموهبة؟، أم أن الأمر مفتوح لمن يجيدون فك (الشفرة)، مستغلين ومطبقين المبدأ الذى صار يحكم المنظومة الإعلامية والفنية والثقافية والاقتصادية والسياسية فى بلادنا، وهو (المصالح تتصالح)!!.

أتذكر مقولة (اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يُصدقك الناس) المنسوبة لوزير الدعاية النازى جوبلز، القائل أيضا (كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسى)، إلا أننى أتصور أن الحكمة الأصدق، والتى تعيش أكثر، وهى المنسوبة لإبراهيم لينكون، الرئيس السادس عشر لأمريكا، والذى يعزى إليه قرار إلغاء الرق فى أمريكا عام 1863، وكانت لديه حاسة أدبية ثاقبة، وله عشرات من الأقوال اللاذعة واللماحة مثل (خير لك أن تظل صامتا ويظن الآخرون أنك أبلة، من أن تتكلم فتتأكد الظنون)، ولكنى أختار له هذه المرة (إذا أردت اختبار معدن رجل امنحه سلطة).

هل نحن فى حياتنا نداعب برقة القانون أم ننقر بقوة الطبلة؟ أعيد الاستماع لمعزوفة نجيب محفوظ وأكتب متفائلا (أنغام القانون الساحرة، ستعلو فى النهاية، على دقات الطبول الصاخبة!!».