د. رشا سمير تكتب: عايدون

مقالات الرأي



لماذا فرض الواقع الشرقى على المرأة العربية الانكسار؟

هل ترتبط الوطنية بالبقاء فى الوطن؟

هل نكتب لنتخلص من هموم الأوطان أم لنحملها على ظهورنا؟

هل تدفعنا بعيدا؟ أم هى التى تصنع هويتنا الإنسانية؟


فإما نحن ننتمى أو لا ننتمى.. إما نبقى أو نرحل.. إما أن يضمنا الوطن أو يلفظنا.. إما أن نكتوى بجراحه أو نغض أبصارنا عن آلامه.

ترفع الكاتبة الليبية كوثر الجهمى بين صفحات روايتها «عايدون» الصادرة عن دار الساقى للنشر فى 174 صفحة من القطع المتوسط، النقاب عن المجتمع الليبى وتكشف تعقيداته من خلال رواية تطرح أسئلة مهمة، أسئلة بدت لى منذ الوهلة الأولى وكأنها تتحدث عن قضايا الوطن العربى بأكمله وليس فقط عن ليبيا، فالهموم العربية واحدة، أفراح وأتراح، فمن اضطهاد المجتمع الذكورى للنساء العربيات وتهميش قضاياهن.. إلى الثورات العربية التى حطمت أحلام المنطقة وحتى الاحتلال الأجنبى لمعظم الدول العربية فى تاريخ المنطقة البعيد.

الرواية فازت بجائزة مى غصوب للرواية، ومى غصوب «1952-2007» لمن لا يعرفها هى كاتبة وفنانة لبنانية، ومؤسسة دار الساقى للنشر مع رفيق دربها أندره كسبار.. وهى جائزة لا تقدم قيمة مالية حال الفوز، بل تُمنح لمن لم يسبق له نشر أى رواية من قبل وتتمثل قيمة الجائزة الحقيقية فى النشر وهى سبب خروج هذه الرواية إلى النور.

هنا يجب أن أتوجه بالشكر للجنة التحكيم المكوّنة من الشاعر عباس بيضون والروائى جبور الدويهى، ورانية المعلم مديرة تحرير دار الساقى للنشر عن تقديمهم لرواية تستحق القراءة وتستحق الدعم، فالمثقف الحقيقى هو القادر على التفرقة بين العمل النفيس والعمل الردىء.

ليبيا الإيطالية:

تبدأ الرواية دون الدخول فى التفاصيل السردية حتى أدع للقارئ مجالاً للتمتع بأحداثها، بإلقاء الضوء على آثار الاستعمار الإيطالى لليبيا الذى دفع الكثيرين من أهلها إلى البحث عن وطن آخر بعد أن لفظهم المستعمر.

يروى التاريخ أن محاولات الاستعمار الإيطالى للسيطرة على إقليمى طرابلس وبرقة اللذين كانت تحكمهما الدولة العثمانية لم تكلل بالنجاح إلا فى الثلاثينيات عندما سيطرت مملكة إيطاليا على المنطقة.

فى 3 أكتوبر 1911 بدأ الغزو الإيطالى لليبيا بطرابلس بدعوى أن الإيطاليين جاءوا لتحرير الليبيين من الحكم العثمانى، ورغم المقاومة العنيفة من الليبيين للغزو، قامت الدولة العثمانية بتسليم ليبيا إلى إيطاليا بتوقيع الطرفين اتفاقا تعترف بموجبه الأستانة بامتلاك إيطاليا لليبيا فى ما عرفت بمعاهدة لوزان فى 1912.

وفى 1934 قامت إيطاليا بدمج إقليمى طرابلس وبرقة كإقليم مستعمر واحد تحت الاسم التقليدى للبلاد «ليبيا» والذى صار الاسم الرسمى للمستعمرة.. ومن هنا رحل من رحل عن ليبيا وعاد إليها من عاد عقب جلاء الاحتلال.

1- غزالة وحسناء.. بطلتان وتمثال واحد

الحقيقة أن فكرة الرواية بديعة، فالفكرة باختصار دفعتنى إلى البحث، والبحث دفعنى إلى المعرفة، والمعرفة تحتم علىّ أن أنحنى احتراما لفكرة الجهمى المختلفة..

الرواية بطلتاها الأم «غزالة» والابنة «حسناء».. غزالة الإعلامية والصحفية صاحبة الرأى والموقف سورية الأصل، والتى انتقلت للعيش مع والد غزالة فى طرابلس بعد فقدان زوجها فى تشاد، وحسناء هى الابنة أو حفيدة الجد التى ورثت عن أمها العناد والثورة ولم تجد فى الثورة الليبية ما يدعو إلى التفاؤل.. وكيف يتم ربط مصير «حسناء وغزالة» بالتمثال الشهير الذى يحمل الاسم نفسه.

وميدان الغزالة أو نافورة الغزالة والحسناء، كما يعرف فى طرابلس، هو ميدان صغير تتوسطه نافورة بها تمثالان هما تمثال «الغزالة والحسناء»، ويمثلان مشهداً فنياً لامرأة عارية تمسك بجرة وتعانق غزالة صممها فنان إيطالى يدعى أنجلو فانيتى، فى مطلع ثلاثينيات القرن العشرين إبان الاحتلال الإيطالى لليبيا.. وقيل إنها أسطورة من أساطير الآلهة الإغريقية..

استيقظ سكان طرابلس فى أحد الأيام من عام 2014 ليجدوا تمثال الغزالة والحسناء قد اختفى، ولم يبق إلا حوض النافورة المزين بفسيفساء زرقاء.

لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يتم الاعتداء فيها على أجمل تماثيل مدينة طرابلس، ففى عام 2012 فوجئ سكان المدينة بقماش أزرق يحيط بكامل التمثال ويحجبه عن المارة من قبل الإسلاميين المتشددين.

فى نفس وقت اختفاء التمثال، تختفى غزالة وابنتها حسناء من الرواية وهو الربط البديع الذى قامت به الروائية، تدور الشكوك حول أن تكونا قد اختُطفتا مع اختفاء التمثال.. ومن هنا تبدأ أحداث الرواية.

يبرر الأب تسمية ابنته وابنتها باسم التمثال الذى فُتن به قائلا:

«فتنت بتمثال الغزالة رغم أنه صمم وصنع بأيدى المحتل، ورغم أنه لم يُصنع لتجميل طرابلس الإيطالية، ولكننى تخيلتنا جميعا نمر من هناك رافعين رؤوسنا.. تخيلت الشوارع التى لم يكن يطأها الليبيون -إلا كانوا متطلينين- تعج بالجرود والأردية الليبية.. لم نكن نعرفها بشوارعها ومعالمها الإيطالية، ولا أنكر أننا شعرنا أنها ليست مدينتنا».

2- "عايدون" بين الاسم والمكنون

هرب والد غزالة إلى سوريا أيام الاحتلال الإيطالى ثم عاد إلى ليبيا بعد سنوات ليصبح اللقب الذى رافقه للأبد هو لقب «عايدون»!.

فى حوار مع ابنته التى تبدو حانقة على أوضاع كثيرة، يوضح الأب لها أصل الكلمة ومعناها من وجهة نظرهم ونظره، قائلا:

«عايدون.. دعينى يا ابنتى أحدثك قليلا عن هذه الكلمة التى قد تكون استفزتك كثيرا، لم أستوعب ما رمى إليه كثيرون بها، نعم أنا من العائدين الذين هاجروا لأسباب متعلقة بالاحتلال الإيطالى، ثم عادوا بعد عودة الوطن إلى أبنائه، ولكن المعنى بالنسبة إليهم لم يقتصر على هذا المفهوم، لقد رأوا فى الهجرة خيانة، والعودة طمعا فيما ليس لنا حق به بعد أن خذلناه.. لقد ربطوا مفهوم الوطنية بالبقاء فى الوطن، رغم أن الواشين أيام الطليان، من كانوا له السمع والبصر، هم ليبيون بقوا فى أرض الوطن ولم يرحلوا عنه».

هذا هو اللقب الذى تتمحور الرواية حوله، هل للعائدين حقوق؟ أم هم متخاذلون ولا يتمتعون بوطنية كافية؟ أم هم من داهمهم اليأس فارتحلوا ليتخلصوا من هموم الأوطان؟

3- مجتمعات القهر الأنثوى

ولأن الأوجاع فى الدول العربية واحدة، فالأكيد أن المرأة العربية فى ليبيا هى المرأة فى كل مكان آخر، تتناول الروائية مشكلات المرأة الليبية فى المجتمع الذكورى والنظرة الدونية التى لا تزال تعانى منها النساء بجُمل بين الفصول تكتب تاريخا من القهر.

من خلال الأحداث ينكشف سر كبير فى حياة غزالة، يصنع بينها وبين ابنتها حاجزا، ويدفع الابنة إلى التشكك فى علاقتها مع والدها..

وتبرر غزالة موقفها بالمعاملة التى لاقتها فى بيت زوجها وتقول:

«الأمر لا يتعلق بحالة الكبت والسيطرة الذكورية فى بيتهم، كل تلك السيطرة والعنجهية الذكورية شىء طبيعى يتوارثه معظم الرجال فى بلادنا، ولا تعنى بالضرورة احتقارهم لنسائهم أو بناتهم، فبعضهم يعتقدون أنهم بهذه الطريقة يعبرون عن خوفهم ومحبتهم لهن».

وتطرح الكاتبة أيضا من بين السطور قضية أخرى شائكة وهى قضية الحجاب ومفهومه بين الدين والعُرف..

«كم شككوا فى عفتى وشرفى لكونى غير محجبة، وكم حاولوا إجبارى على ارتدائه بكل الطرق المهينة فما زادونى منه إلا نفورا».


4- تاريخ يتكرر.. تقول حسناء:

«لا تفهم كلامى بأنه استهانة بمن ماتوا من أجل أهداف نبيلة، لكن ما الذى تحقق من تلك الأهداف حتى الآن؟ ينتابنا جميعا شعور بأنكم نسيتم أهدافها التى ضحيتم من أجلها حسب زعمكم.. مؤيدى الثورة يعتقدون يقينا أن كتائبكم ماهى إلا كتائب القذافى متنكرة بزى جديد وشعارات جديدة، صدق أو لا تصدق، إنهم يرمونكم على شماعة النظام السابق وأنتم تفعلون مثلهم، دوامة لن يخرج منها الوطن إلا على غرفة الإنعاش.. الناس الذين كفروا بالثورة هم أولئك الذين خربت بيوتهم الواقعة على أرض النار.. هم أولئك الذين لم يرتضوا أن تنتقم قبائل من قبائل ومدن من مدن بسبب ضغائن متوارثة لقرون تحت رداء الثورة والأزلام».

وتُلخص المعنى الحقيقى للوطن فى كلمات أراها حال كل الأوطان التى تنطق بلسان الضاد:

«كونى متأكدة أن وطنك ليس بحاجتك، وطنك أرض عمرها ملايين السنين، وستبقى.. نحن نتوارثها جيلا بعد جيل، يطمع فيها أبناؤها مرة وأعدائها مرات عدة، ولكنها باقية، الوطن لا يحتاجنا، نحن من نحتاجه، أن عمليات الهجرة ماهى إلا محاولات لإيجاد أوطان جديدة؟ قد تنجح مرة ولكنها تفشل مرات.. ويبقى الحنين إلى تلك البقعة كأنها مركز الكون لكل منا، المرفأ الذى يربط قلوبنا، فلا نملك الإبحار بعيدا عنه، ولا الرسو فيه مجددا بعد أن باتت أعماقه ضحلة».

تحية لكوثر الجهمى القلم الواعد، التى استطاعت أن تكشف عورات المجتمع الليبى وترفع الغطاء عن همومه ومشاكله دون خوف.. وتحية لدار الساقى اللبنانية التى تمتلك مجموعة متميزة من القائمين على اختيار الأعمال ممن يستطيعون تقييم الأدب الذى يستحق النشر بحق دون غيره.