د. نصار عبدالله يكتب: صعيدي فى السوربون

مقالات الرأي



فى مطلع الستينيات من القرن الماضى، حين التحق أحمد محمد راشد ابن قرية العوامية مركز ساقلته محافظة سوهاج والذى يطلق عليه فى قريته «الضبع»!. حين التحق الضبع بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وجاء إلى القاهرة للمرة الأولى فى حياته، كان يؤمن بعدد من القناعات الغريبة الراسخة، من بينها مثلا أن ارتداء البيجاما هو نوع من الفجور!!، ولهذا السبب فقد حرص على أن يجلب معه من سوهاج عددا من الجلاليب «المحتشمة»!،.. ومن بينها كذلك أن الطب الشعبى خير من الطب العصرى، ولهذا السبب فقد جاء يوما إلى الكلية وقد ألصق قطعة من البصل فوق دمّـل فى رقبته صادما بذلك مشاعر زملائنا وزميلاتنا من الارستقراطيين والأرستقراطيات جدا وما كان أكثرهم فى كليتنا بالذات،..كذلك فقد كان من قناعاته أن سوهاج لا أسيوط هى عاصمة الصعيد وهو الأمر الذى كان يدخل بسببه يوميا تقريبا فى مصادمات كلامية عنيفة مع زميلتنا الأسيوطية التى أصبحت فيما بعد عضوا بمجلس الشعب عن دائرة أسيوط.. أعنى بها كاملة كامل والتى كنا نطلق عليها على سبيل الدعابة كومبليتا كومبليت!، وعندما علم أحمد راشد بأننى أيضا من أبناء محافظة أسيوط حاول أن يستدرجنى إلى الدخول معه فى معركة حول جدارة سوهاج وليس أسيوط بأن تكون هى عاصمة عموم الصعيد فى الجمهورية المتحدة، لم يجد لدى أى حماس على الإطلاق للدخول معه فى مثل هذه، وعندما شعر أحمد راشد بأننى لا أعترض على أن تكون سوهاج أو غيرها عاصمة للصعيد أعلن على الملأ أننى صديقه الحميم، وأننى لست من القوى المعادية مثل كاملة كامل!

مع مضى الأيام بدأت قناعات أحمد راشد تتغير تغيرا دراماتيكيا.. ففى السنة النهائية حاول أن يقنع واحدا من بلدياته هو الزميل أسامة التاجى ابن قرية شندويل (أصبح فيما بعد وكيلا لوزارة مجلسى الشعب والشورى)، حاول أن يقنعه بارتداء الشورت والتجول به فى شوارع القاهرة كما يفعل الخواجات السواح بدعوى أن الشورت عملى ومناسب للجو الحار!، وقد رفض أسامة التاجى الانصياع لهذه الفكرة المجنونة فى رأيه، واكتفى بأن روى لنا ما حدث وهو أن أحمد راشد قام بارتداء شورت وقميص مشجر ووضع فى فمه بايبا (مثل بايب السادات فيما بعد)، وراح يقطع المسافة جيئة وذهابا مابين ميدان التحرير وميدان سليمان باشا والعيون تتطلع إليه فى استغراب ودهشة.

وفى فترة التحول هذه انكـبّ أحمد راشد على القراءة انكبابا مذهلا.. وخرج من قراءاته الواسعة بقناعات لا تقل غرابة على المستوى الفكرى عن قناعاته على المستوى السلوكى، فقد خرج مثلا بقناعة تقول بأن معيار فساد أى فكرة يقاس بمدى التفاف الجماهير الفاسدة حولها، فإذا وجدت فكرة تلقى قبولا جماهيريا واسعا فاعلم بأنها فكرة سوقية لامحالة؛ ومن هذا المنطلق بدأ يهاجم الاشتراكية فى عز أوج التحول الاشتراكى!.. وعندما عقد المؤتمر العام للاتحاد الاشتراكى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية اقترح رئيس المؤتمر وقد كان على الدين هلال إن لم تخن الذاكرة، اقترح إرسال برقية تأييد إلى الرئيس جمال عبدالناصر.. وهنا رفع أحمد راشد يده قائلا إنه يعترض على التأييد.. وأجابه على الدين هلال بهدوء.. «من حقك أن تعترض ولكننا سنلتزم فى النهاية برأى الأغلبية»، وطرح الأمر على المؤتمر فوافق بالإجماع على اقتراح على الدين هلال ورفض بالإجماع اقتراح أحمد راشد الذى اعتبر هذا الموقف من المؤتمر علامة من علامات السوقية، وطلب الكلمة فأعطيت له حيث انتهز الفرصة فشن هجوما عنيفا على الاشتراكية مختتما هجومه بمطالبة المؤتمر الاشتراكى أن يصدر توصية بالأخذ بنظام التعددية الحزبية ونظام السوق!!، وتبادل الجميع النظرات التى لم يكن فيها غير معنى واحد: هذا شخص يسعى بقدميه إلى الاعتقال.. بل إنه يلح فى فى طلبه إلحاحا غريبا 0ومع هذا فلم يعتقل أحمد راشد.. ولم يمسسه أحد بسوء! وهو الأمر الذى أصبح مثارا للعديد من التأويلات، التى وصلت إلى حد ما روج له البعض من أنه عميل للأجهزة الأمنية وأنه مكلف من جانبها بالقيام بدور الطعم الذى يلتف حوله أعداء الاشتراكية حتى يمكن الإيقاع بهم له، وفى اعتقادى الخاص أن مثل هذه التأويلات لا أساس لها من الصحة، فالحقيقة شبه المؤكدة فى رأيى أن جمال عبدالناصر لم يعتقل قط شخصا أبدى رأيا من خلال قناة مشروعة سمح بها هو مهما كان هذا الرأى مخالفا لسياسته.. وعندما تخرج أحمد راشد عام 1966، لم تنقطع صلته بالكلية..فقد كان دائم الحضور مع طلاب الدراسات العليا دون أن يسجل نفسه رسميا بها حيث كان يحضر بعد أن يستأذن من الأساتذة المحاضرين، وحين يأذنون له، كان يدخل معهم فى مناقشات عنيفة تجعلهم فى أغلب الحالات يندمون على سماحهم له بالحضور!.. وفجأة سمعنا أنه قد حصل على منحة من جامعة السوربون للحصول على درجة الدكتوراه..وقيل وقتها إن الدكتور بطرس غالى هو الذى سعى بنفسه لكى يحصل أحمد راشد على هذه المنحة.. فقد كان بطرس غالى مهذبا إلى الحد الذى لا يستطيع معه أن يرفض السماح لأحمد راشد بحضور محاضراته، وفى نفس الوقت كان بطرس غالى مهذبا أيضا إلى الحد الذى لا يستطيع معه أن يتحمل الأسلوب العنيف فى المناقشة الذى كان يتسم به أحمد راشد..وهكذا لم يجد حلا للخلاص منه سوى أن يبعث به إلى السوربون!، ثم انقطعت عنى أخبار أحمد راشد زهاء خمسة عشر عاما وعلى وجه التحديد حتى عام 1982حين جاءنى فى مكتبى بالجامعة بسوهاج أحد أبناء قرية العوامية فى أمر يخص أحد أقاربه من الطلاب، وانتهزت الفرصة وسألته عن أخبار أحمد راشد..فقال لى إنه قد حصل على الدكتوراه من السوربون وعمل محاضرا بها، ثم تزوج من فتاة فرنسية وأنجب منها طفلتين، وطابت له الحياة فى فرنسا فاستقر فيها.. ومنذ أسابيع فقط خطر له أن يجىء فى زيارة إلى مسقط رأسه فجاءها بطريقته المجنونة مصطحبا زوجته وطفلتيه مستقلا سيارته التى قطع بها آلاف الأميال..وعلى بعد نصف كيلومتر فقط من قريته حاول أن يتفادى سيارة نقل مسرعة فاختلت منه عجلة القيادة وسقطت به السيارة فى الترعة القريبة.. وغرق هو وزوجته بينما تمكن الأهالى من إنقاذ الطفلتين.

وفوجئ محدثى بدموعى وهى تنساب فجأة.. ولم يدرك، وما كان بوسعه أن يدرك أننى لا أبكى أحمد راشد فحسب.. ولكننى أبكى إلى جانبه زمنا جميلا.