د. نصار عبدالله يكتب: عندما يكون مصيرك معلقا على قرار كلب

مقالات الرأي



كنت عائدا عقب مشاركتى فى مؤتمر ثقافى من بوجوتا (عاصمة كولومبيا) إلى القاهرة عن طريق فرانكفورت، ولحسن حظى كان مقعدى مجاورا للشاعر والناقد والأستاذ الجامعى الزيمبابوى المعروف: «موسى زامورا» الذى كنت قد تعرفت عليه فى اليوم الأول من أيام المؤتمر، وقد خفف عنى جلوسه إلى جوارى واستماعى إلى أحاديثه الشيقة الممتعة، قسوة اثنتى عشرة ساعة متصلة من الطيران هى مدة الرحلة من بوجوتا إلى فرانكفورت!، وحين هبطت الطائرة فى المطار واصطف الركاب استعدادا للنزول، لاحظت بطئا غير معهود فى حركة الطابور، فسألت موسى الذى كان واقفا أمامى إن كان يعرف السبب، فأجابنى إجابة لم أفهم معناها إلا بعد حين... كانت إجابته مختصرة لكنها كانت تنم عن أنه قد عاش تجارب مشابهة من قبل.. قال لى موسى: «لعلّه السيد المحترم الكلب!»، وحيّرتنى الإجابة ولم أفهم منها شيئا!، لكننى حين جاء دورى أخيرا ووصلت إلى باب الطائرة هالنى ما رأيت، فقد كان أمام الباب مباشرة كلب هائل الحجم تمسك به ضابطة شرطة ألمانية مقطبة (حجمها نصف حجمه تقريبا)،. وأدركت على الفور مهمة الضابطة والكلب وسر وضعهما معا على مدخل الطائرة القادمة من بوجوتا.. إنها المخدرات، وبالذات «الكوكايين»، الذى تعد كولومبيا المنتج الأول له على مستوى العالم بأكمله، والذى أصبح يمثل لسائر الحكومات الكولومبية المتعاقبة مشكلة تفوق فى ضراوتها سائر مشاكلها مجتمعة، بما فى ذلك مشكلة الحرب المستعرة منذ سنوات بين الجماعات اليسارية وبين الحكومات المتعاقبة التى لم تنجح واحدة منها لا فى كسب الحرب ولا فى القضاء على زراعة الكوكايين!.

راح الكلب يتشممنى والدم يكاد أن يتجمد فى عروقى (ماذا لو افترضنا أن واحدا من الذين صافحونى مودعين فى مطار بوجوتا كانت فى كفيه لسبب أو آخر آثار كوكايين؟.. فى مثل هذه الحالة هل سينشب الكلب أنيابه فى عنقى أم أنه سيعجز عن إدراك الرائحة بعد مرور تلك الساعات الطويلة؟)..

مرت لحظات كأنها دهور قبل أن يرفع الكلب رأسه عنى وينظر إلى الضابطة نظرة ذات مغزى، عندئذ فكت الضابطة تقطيبتها، وابتسمت، وسألتنى بلغة إنجليزية تشوبها لكنة ألمانية: هل تتكلم الإنجليزية؟ قلت: نعم، قالت ماذا كنت تفعل فى كولومبيا؟، أجبتها: لقد كنت أمثل مصر فى مهرجان الشعر الدولى الذى يعقد هناك كل عام ، تحديدا فى مدينة ميدلين التى سافرت إليها بالطائرة من العاصمة بوجوتا، ثم عدت بعد انتهاء المهرجان من ميدلين إلى بوجوتا مرة أخرى، ومنها إلى هنا فى فرانكفورت حيث سوف يتوجب على بعد ساعتين تقريبا أن أستقل الطائرة المتجهة من فرانكفورت إلى القاهرة، ابتسمت مرة أخرى وقالت مرة أخرى: أتمنى لك رحلة سعيدة وسمحت لى بالمرور.. إذن فقد ثبتت براءتى أمام الكلب الخبير (أو بالأحرى الخبير الكلب) وتفضل سيادته بإعطائها الإذن بالمرور!!. وجعلها تفك تقطيبتها وتتمنى لى رحلة سعيدة!!ـ وأسرعت أجتاز الأنبوب المفضى إلى صالة الوصول، وأنا أستعيد عبارة زامورا «لعله السيد المحترم الكلب»، ورحت أسأل نفسى كم هى الحالات والمواقف التى يكون فيها مصير الإنسان معلقا على رأى كلب؟، وكم هى الحالات التى تكون فيها الكلمة النهائية، والرأى الأخير لكلب.. مجرد كلب؟؟.. ولقد خطر لى عندئذ أن أسرع الخطى لكى أدرك زامورا وأقول له: إن أمريكا اللاتينية التى أتينا منها الآن، وأفريقيا التى نتجه إليها بعد قليل، حافلة على مختلف المستويات والمواقع بنماذج مكبرة من هذا الموقف الصغير الذى عشناه، غير أن موسى كان قد هرع مهرولا لكى يدرك طائرته المتجهة إلى زيمبابوى والتى كانت على وشك الإقلاع، بينما كانت أمامى ساعتان من الانتظار، قبل أن أستقل الطائرة المتجهة من فرانكفورت إلى القاهرة.