نشرت على لسان فاروق حسنى: أنا وزير الحرام.. صفحات من مذكرات عادل حمودة (56)

العدد الأسبوعي

الكاتب الصحفي عادل
الكاتب الصحفي عادل حمودة


كاتب شهير يتساءل: كيف لا أعين وزيرا للثقافة وكنت خادما للنظام؟ ومبارك يرد: وهل نعين خادما وزيرا؟

تحدث حسني عن الحجاب فهاجمه زكريا عزمى وكمال الشاذلى تحت قبة البرلمان

رغم موهبته المبكرة فكر فى دراسة الحقوق ولكن أمه أجبرته على دخول كلية الفنون

عرض على هيكل علاجه على نفقة الدولة بعد استئذان مبارك ولكن هيكل اعتذر لتوفير المال لمن لا يملك ثمنه

تعرض حسنى لكثير من العواصف لكنها لم تطح به واستمر وزيرا نحو ربع قرن

استقبل عبد الرحمن الشرقاوى تعيينه بعاصفة من الغضب وبعد أن تحدث معه قال: لقد غرر بى


لا مفر من الاعتراف بأن الصحفى يسعده كثيرا أن يكشر عن أنياب قلمه وهو ينتقد المسئولين ويزداد شعوره بالانتشاء كلما واتته فرصة الهجوم على الكبار.

ولكنى بعد السنوات الطوال التى عشتها فى بلاط صاحبة الجلالة أصف ذلك التنمر بالمراهقة الصحفية التى لابد من تجاوزها حتى تكون الحقيقة التى نسعى إليها خالية من العقد النفسية.

على أننى لم أكن الوحيد المصاب بذلك الداء بل سبقنى إليه مشاهير الكتاب الذين تربيت فى وجودهم.. تنمر هيكل للسادات ولكن بعد اغتياله.. وتنمر سليم اللوزى لهيكل دفاعا عن مصطفى وعلى أمين.. وتنمر أحمد أبو الفتح وأنيس منصور وموسى صبرى لجمال عبد الناصر بعد أن استردوا بوفاته الثقة فى أنفسهم.

وما إن اختير فاروق حسنى وزيرا للثقافة فى حكومة الدكتور عاطف صدقى حتى وجد نفسه فى غابة من النمور والأسود والذئاب والضباع، ولكنه نجح فى ترويضها ليظل فى منصبه لمدة 24 سنة مسجلا رقما قياسيا غير متوقع وتغير عليه أربعة رؤساء للحكومة ولم يغادر مكتبه إلا بعد تنحى مبارك عن الرئاسة فى أعقاب ثورة يناير.

فى الأسبوع الأول من أكتوبر 1987 تلقى فاروق حسنى وهو فى روما مكالمة تليفونية من عاطف صدقى طالبا منه بوضوح وحزم أن يستقل أول طائرة ويعود إلى القاهرة فورا.

كان آخر ما توقعه حسنى أن يفاتحه صدقى فى بيته بترشحه وزيرا للثقافة وشعر حسنى الذى عاش 18 سنة مديرا للمركز الثقافى فى باريس ومديرا للأكاديمية المصرية فى روما بالصدمة فقد تعود على الحياة فى أوروبا وسط مناخ تشكيلى وموسيقى وأدبى تعود عليه.

اعتذر حسنى عن عدم قبول الوزارة ولكن صدقى الذى عرفه وهو مستشار ثقافى فى باريس صرخ فى وجهه: أنت مجنون أن تعتذر وأضاف: يعنى احنا اللى واقعين من قعر القفة؟ أنت عشت سنوات طويلة فى أوروبا ما المانع أن تخدم بلادك سنتين أو ثلاثا؟

بعد ثلاث ساعات من الجدل وافق حسنى والحقيقة أننى لم أشكك فى سلامة قرار صدقى، فالرجل الذى عرفته أستاذا لمادة المالية العامة وأنا طالب فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية واقتربت منه كثيرا فى سنوات عمره الأخيرة يتمتع بشفافية وموضوعية يصعب التشكيك فيهما كما أنه وضع اسم حسنى فى ذيل قائمة المرشحين للمنصب ومبارك هو من اختاره.

ولكن ما إن أعلن حسنى وزيرا للثقافة حتى وجد نفسه فى مرمى نيران فتحت عليه من جميع الجهات وبدأها عبد الرحمن الشرقاوى فى صحيفة الوفد رافضا قبوله قائلا: نحن لا نعرف من يكون؟ وتوالت الطلقات من كتاب آخرين صدموا على ما يبدو من تعيين فنان تشكيلى وزيرا للثقافة وكان المنصب عادة من نصيب الأدباء مثل يوسف السباعى وعبد المنعم الصاوى أو من نصيب شخصيات عامة مثل ثروت عكاشة وعبد القادر حاتم ومنصور حسن.

يضاف إلى ذلك أن حسنى كان مجهولا بالنسبة للأوساط الثقافية لغيابه عن مصر وعزلته عنها بجانب أنه لم يكن قد وصل إلى سن الأربعين عندما أصبح وزيرا.

لم أتردد فى الانحياز إلى الشرقاوى بحكم معرفتى به خلال توليه مسئولية إدارة وتحرير روزاليوسف كما أنه وقع قرار تعيينى صحفيا ولكن الأهم أننى أعرف جيدا أنه مستنير ويعرف كيف يكسب معاركه.

ولكن على الجانب الآخر تشكلت جبهة للدفاع عن حسنى قادها موسى صبرى وساندها منصور حسن وتوسط كرم مطاوع بينها وبين الشرقاوى وكان مطاوع قد أخرج أكثر من مسرحية للشرقاوى وتكونت بينهما صداقة متينة.

ذهب حسنى إلى الشرقاوى فى بيته بصحبة مطاوع واستمع منه لرؤيته الثقافية وطال الحديث الذى أداره حسنى ببراعة كاشفا عن خبرات حصدها فى الخارج يمكن الاستفادة منها فى تنمية الثقافة فى مصر وانصت الشرقاوى طويلا حتى اقتنع وحسب ما ذكره حسنى فى حواره مع انتصار دردير فإن الشرقاوى قام وقبله مرتين وأقام بعد ذلك وليمة عشاء تكريما له دعا إليها عددا من الكتاب والفنانين وقال جملته الشهيرة: لقد غرر بى.

فى اليوم التالى اقترح الدكتور سمير سرحان رئيس هيئة الكتاب عقد لقاء موسع مع المثقفين حضرته وسط 120 شخصا فى مكتبه المطل على النيل عند بولاق لم يحضره ثروت أباظة الذى ظل رافضا لوجود حسنى فى منصبه وكتب مقالا بعنوان «وجوم» عبر فيه بتلك الكلمة عن مشاعره بعد تلقى نبأ تعيين حسنى وزيرا للثقافة.

وبفروسية الشرقاوى كتب مقالا آخر فى الوفد صحح فيه موقفه من حسنى مؤكدا أنه نال الكثير من التشهير ممن كانوا ينتظرون منصب وزير الثقافة لأنفسهم.

كان أحد المشتاقين قد قال: عملت خادما لدى النظام فكيف لا يعينوننى وزيرا للثقافة؟ وعندما وصلت مقولته إلى مبارك رد قائلا: وهل نعين خادما وزيرا؟

لم تكن سنوات حسنى فى الوزارة سوى مشيا على أشواك ومسامير لا يكاد ينجو من أزمة حتى يقع فى أخرى.

أولى تلك الأزمات التى ساندته فيها كانت رواية «وليمة لأعشاب البحر» التى كتبها الأديب السورى حيدر حيدر وصدرت فى بيروت عام 1983 وتدور أحداثها حول مناضل شيوعى عراقى يهرب إلى الجزائر ويلتقى بمناضلة قديمة تعيش عصر انهيار الثورات ويجرى الحوار بينهما فى الجنس والدين بجرأة.

عندما طبعت وزارة الثقافة الرواية فى مصر عام 2000 أحدثت ضجة فى الأوساط الدينية المحافظة ومنعها الأزهر بدعوى الإساءة للإسلام وانطلقت تظاهرات من جامعة الأزهر لم يقرأ مشارك واحد فيها الرواية وقام محامون منتمون للتنظيمات الإسلامية بتقديم بلاغ إلى النائب العام طالبوا فيه بمصادرة الرواية ومحاكمة المسئولين عن نشرها ووصلت الأزمة إلى مجلس الشعب.

ولكن أصعب مفاجآت ذلك الموقف المتفجر جاءت من هيكل الذى وقف فى مواجهة الثقافة، منتقدا نبرة الثقة فى تصريحات الوزير التى توحى بأن الثقافة محمية سياسية لها وضع خاص وهاجم هيكل كتاب ليبراليون منهم الأديب خيرى شلبى قائلا: إنه لشيء عجيب حقا أن يتطوع من بيننا من يقبل أن يكون مخلب قط للقوى الظلامية المتربصة بنا فى كل مكان وأن يجعل من نفسه مخبرا ومعاونا ومرشدا كأنه مفتش مباحث.

ومرت الأزمة بسلام، ولكنى لم أساند الوزير فى أزمة الروايات الثلاث.

كانت هيئة قصور الثقافة قد نشرت رواية «أبناء الخطأ الرومانسى» لياسر شعبان و«أحلام محرمة» لمحمود حامد و«قبل وبعد» لتوفيق عبد الرحمن وسربت المطابع نسخا منها لعضو مجلس الشعب الإخوانى جمال حشمت قبل طرحها فى الأسواق ونجح فى حشد 13 نائبا غيره لتقديم استجواب للوزير واتهامه بخدش الحياء العام.

ويبدو أن الوزير الذى نجا من أزمة «وليمة لأعشاب البحر» لم يشأ أن يتعرض من جديد للمتاعب التى نالها وأوقف نشر الروايات الثلاث ومنع بيعها بدعوى أنها تحمل ألفاظا جنسية وبها وصف دقيق للأعضاء التناسلية.

واعتبرت دفاع الوزير قاصرا جنح فيه ناحية الاجتزاء وإخراج العبارات التى لم تعجبه من سياقها فلم أتردد فى الهجوم عليه بشدة على صفحات صوت الأمة وعاملته بالمثل واجتزأت مساحات من لوحاته ولخصتها فى مشاهد توحى بأنها أعضاء تناسلية.

ويبدو أن الهجوم أوجعه فقد هددنى مستشاره القانونى سامى عبد الصادق برفع دعوى قضائية ضدى لكنى لم أتراجع بل وجدتها فرصة لمزيد من التنمر بالوزير تحقق مساحة من الانتشار والثقة فى الصحيفة التى كنت رئيس تحريرها، و تراجع الوزير عن اللجوء إلى القضاء وبدأت الوساطات بينى وبينه.

كنت خارجا من لقاء مبارك مع المثقفين عندما اقترب منى أنس الفقى ليدعونى إلى حوار على عشاء مع الوزير فى نادى العاصمة وكان فى انتظارنا الدكتور سمير سرحان والدكتور فوزى فهمى الذى يعد واحدا من أفضل من تولوا رئاسة أكاديمية الفنون ودار بيننا حديث ودى شرح فيه الوزير ببراعة وجهة نظره.

لم أكن قد التقيت الفقى من قبل وكل ما كنت أعرفه عنه أنه كان يدير مركزا لتوزيع الموسوعات الأجنبية ولكن وجوده فى اجتماع الرئيس بالمثقفين أكد أنه يتمتع بصلات جيدة رشحته فيما بعد رئيسا لهيئة قصور الثقافة.

وكنت مع الوزير عائدين إلى القاهرة من جنيف عندما عرفت منه أنه سيختار الفقى رئيسا لهيئة الكتاب بعد وفاة سمير سرحان متأثرا بالسرطان ولكن المفاجأة التى تلقيناها فور هبوط الطائرة أن الفقى عين وزيرا للشباب والرياضة وبدا واضحا أن نفوذه يتجاوز حدود الوزير ولم تمر سوى شهور معدودة حتى اختير وزيرا للإعلام ليصبح واحدا من مجموعة محدودة تساند جمال مبارك والمؤكد أن الفقى شارك فى إدارة الأزمات الأخيرة التى انفجرت مع ثورة يناير وما أن تنحى مبارك حتى قدم الفقى استقالته.

فى أول حوار صحفى مع حسنى وصف نفسه بأنه وزير الحرام مشيرا إلى كراهية التنظيمات الدينية المتطرفة إلى ما تنتجه وزارته من إبداع وأثبتت كثير من الأحداث أن عنده حق.

فى 14 أكتوبر 1995 طعن نجيب محفوظ فى رقبته من شاب ينتمى إلى جماعة إسلامية اسمه محمد ناجى مصطفى (فنى أجهزة كهربائية) حرض على اغتيال محفوظ بسبب رواية أولاد حارتنا التى لم يقرأ منها حرفا وما أن هرعت إلى زيارة محفوظ فى المستشفى حتى وجدت هناك الوزير قد سبق الجميع للاطمئنان عليه.

ويومها سمعت من الوزير اقتراحه لمعالجة التطرف والذى يتلخص فى تكوين مجموعة للتنمية البشرية ـ على غرار مجموعة التنمية الاقتصادية ــ يرأسها رئيس الوزراء لتنفذ قراراتها وتضم وزراء الثقافة والتعليم والإعلام والأزهر والشباب بجانب ممثلين عن المؤسسات الدينية ولكن لم يؤخذ باقتراحه وإن ظل الاقتراح مغريا بتطبيقه.

وعندما وقعت مذبحة الأقصر التى راح ضحيتها سياحا من اليابان وسويسرا كانوا فى معبد حتشبسوت عندما حصدت أرواحهم مجموعة إرهابية استغلت الثغرات الأمنية ونشرت فى روزاليوسف ادعو الوزير إلى تبنى قداسا على روح الضحايا يقام فى معبد الكرنك واستجاب الوزير وساهم بما فعل فى تجاوز أزمة هروب السياح من مصر وساعد على ذلك أيضا وجود وزير سياحة يجيد التعامل مع الإعلام الخارجى فى الأزمات هو الدكتور ممدوح البلتاجى.

وما أن حصل سيد القمنى على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية عام 2009 حتى شن المتطرفون هجوما على حسنى ووجد نفسه فى المحاكم يواجه أكثر من دعوى قضائية باسترداد الجائزة أو إقالته وكان دفاعه أن الوزير لا يتدخل فى منح الجوائز وأنها مسئولية المجلس الأعلى للثقافة الذى يضم 54 عضوا ويصوتون على المرشحين للجوائز سرا.

وذات يوم تحدث فاروق حسنى عن الحجاب وكما توقع تعرض لهجمات شرسة من التيارات الإخوانية ولكن ما لم يتوقعه أن ينضم إلى الهجمات رموز فى السلطة مثل زكريا عزمى وكمال الشاذلى وغيرهما حين راحا يستنكران ما قال تحت قبة مجلس الشعب ويحرجونه ويزايدون عليه.

وهنا كتبت مندهشا من عدم تجانس المسئولين فى نظام واحد يجمعهما والأهم أننى تحدثت عن نفاق البعض فى السلطة الذى لا يزعجه الفساد المستشرى فى كل المستويات ويقيم علاقات غير شرعية ثم تنفر عروقه عندما يمس أحد الحجاب.

وبدا واضحا أن هناك صراعات حادة بين الوزراء بعضهم البعض فلم يكن وزير الإعلام صفوت الشريف يطيق فاروق حسنى بل إن رئيس الحكومة الدكتور كمال الجنزورى لم يتردد فى تقسيم الوزراء إلى مؤيدين يساندهم ومعارضين يسعى للتخلص منهم وكان من بينهم الشريف وحسنى والشاذلى وغيرهم.

وبطول البقاء حقق حسنى إنجازات لا حصر لها فى مجالات الثقافة والفنون المختلفة ولكنى أتصور أن أعظم ما سعى إلى تنفيذه هو المتحف المصرى الكبير الذى يشيد على 117 فدانا وساهمت اليابان فى تمويله بمنحة تصل إلى 300 مليون دولار وكان مقرر افتتاحه قبيل نهاية عام 2011 ليضم 100 ألف قطعة أثرية ولكن أحداث الثورة عطلت العمل فيه وأجلت افتتاحه إلى عام 2020.

وطول البقاء أيضا جعل حسنى يحول كثيراً من الأعداء إلى أصدقاء ولا شك أن شخصيته المتسامحة سهلت ذلك كما أنه أجاد التعامل مع الإعلام ولم يفرق فى لقاءات مبارك بالمثقفين بين مؤيد ومعارض أو بين يمين ويسار.

والأهم أنه كان وسيطا موثوقا فيه بين مبارك والمثقفين فكان يتدخل لتصفية الأزمات التى تقع من الجانبين بخلاف غيره من الوزراء الذين كانوا يصبون الوقود على النار انتقاما من صحفى نشر خبرا لم يعجب أحدهم أو كاتب انتقد بعضهم.

وعندما عرف حسنى من عبد الله السناوى أن هيكل يتعرض إلى أزمة صحية تفرض عليه العلاج فى الخارج اقترح على مبارك تغطية تكاليف العلاج ووافق مبارك ولكن هيكل اعتذر مؤكدا أنه قادر على تغطية نفقاته وأن هناك غيره من هو أحق بما عرض عليه.

وما ساعد حسنى على الاستمرار فى الوزارة أنه لم يكف عن ممارسه الفن التشكيلى وإقامة المعارض فى الداخل والخارج فقد أدرك جيدا أن الوزارة مهما طالت زائلة ولن تبقى له سوى لوحاته لتخلد ذكراه وتبرر وجوده فى الدنيا.

ويمتلك حسنى ذوقا رفيعا فى ملابسه وأناقة فى كلماته ويعيش فى متحف من اللوحات النادرة والكتب المميزة والأسطوانات الراقية وحسب ما سمعت منه كثيرا فإن الريشة والسيمفونية والرواية ساهمت فى تكوينه منذ أن كان صبيا تتولى أمه رعايته بعد أن توفى والده وعمره تسع سنوات وكانت وراء دراسته فى كلية الفنون الجميلة فى وقت تصور أن مستقبله سيكون فى الطب أو المحاماة.

إن الوزير الذى يحترف السياسة غالبا لا ينام إلا بحبة فاليوم يعطل بها حواسه الخمس حتى يفقدها ولكن الوزير الذى يعرف كيف يعبر عن نفسه بالألوان يشعر بأحاسيس البشر ويؤمن بأن دموعهم هى التى تنبت الأزهار.

ولا أتصور أنك فى حاجة لتعرف نوع الوزير الذى كان عليه فاروق حسني.