عادل حمودة يكتب: صورة سيلفي مع إفريقيا فى أسوان

مقالات الرأي



مصر عادت إلى إفريقيا بعد أن حرق السادات ومبارك الجسور التى بناها عبد الناصر

السيسى نجح مع الحكام بدبلوماسية شخصية هادئة وصبورة وبدأ التواصل مع الشعوب بمنتدى الشباب

نصيحة وزراء اقتصاد فى الاتحاد الأوروبى: أنتجوا للأسواق الإفريقية فلن تنافسوا فى الأسواق الغربية


كانت أشعة الشمس تختفى تحت سطح النهر عند أسوان راسمة على المياه كلمات من خيوط الذهب صاغها حابى إله النيل: حان وقت إفريقيا.

على مدرجات مسرح مكشوف جلس 1500 شاب عربى وإفريقى يشهدون حفل انطلاق منتدى يجمعهما، دعت إليه مصر ونجحت فى تنظيمه تحت رعاية رئيسها الذى ابتسم فى لقطات سيلفى مع شباب كان بجانبه على ظهر مركب متجه إلى مكان الحفل بينما كتبت مراكب شراعية على قلوعها المفرودة عبارات الترحيب.

شباب يعرف متى يستخدم التكنولوجيا الحديثة ومتى يرقص على إيقاعات الموسيقى العريقة؟ ولكن الأهم أنه يدرك الآن حجم كنوز الذهب والماس واليورانيوم والكوبالت والغاز والنفط والمياه والغابات والأسماك والطبيعة الساحرة التى تمتلكها القارة السمراء ولم يتوقف عن استنزافها مغامرون من جنسيات متعددة تاركين كثيرا من شعوبها يبحثون عن نصف ثوب يستر عوراتهم.

جيل جديد لم يعد من الممكن أن يختطفه تجار الرقيق ليصير عبدا فى الولايات المتحدة أو أن ينصب عليه وزراء المستعمرات فى أوروبا ليقبل باحتلال بلاده مقابل عقود من الخرز الملون.

دعت مصر هذا الجيل إلى أسوان ليضع بنفسه خارطة مستقبل القارة التى تملك مفاتيح بوابتها الشمالية والعربية ولتؤكد من جديد أنها عادت إليها بعد طول غياب.

منذ تفجرت ثورة يوليو (1952) استوعبت القاهرة حركات التحرر فى العالم الثالث وساعدتها على نيل استقلالها واسترداد كرامتها وحتى اليوم تكاد لا تخلو عاصمة إفريقية من شارع يحمل اسم جمال عبد الناصر عرفانا وامتنانا.

ورغم عداء عبد الناصر للنظم الملكية فإنه احتفى بزيارة إمبراطور الحبشة هيلاسى لاسى وفى مأدبة العشاء التى أقيمت على شرفه ظهرت السيدة تحية عبد الناصر لأول مرة علنا فى مناسبة رسمية وفيما بعد شارك عبد الفتاح السيسى فى إزاحة الستار عن تمثال الإمبراطور فى مقر منظمة الوحدة الإفريقية فى أديس أبابا.

ظل هيلاسى لاسى على العرش 46 سنة ولكنه فقده على إثر انقلاب أحمر قام به منجستو هيلا ميريام فى عام 1974 سانده ودعمه الاتحاد السوفيتى.

فى ذلك الوقت انقلبت سياسة مصر فى إفريقيا وتغيرت تماما.

كان السادات قد نقل القاهرة من التحالف مع موسكو إلى التحالف مع واشنطن ولم يتردد فى أن يضم مصر إلى نادى السفارى بجانب إيران والسعودية والمغرب وفرنسا لمحاربة الشيوعية دبلوماسيا وعسكريا فى إفريقيا فانفجرت الصراعات العرقية والحروب الأهلية وعاشت القارة أسوأ سنواتها.

ورغم أن السادات أعلن أن حرب أكتوبر ستكون آخر الحروب إلا أنه أضاف فى اجتماع مع حكومته: إنه إذا حارب فسيحارب فقط من أجل مياه النيل.

واعتبر منجستو كلمات السادات إعلان حرب على إثيوبيا التى يبدأ منها النيل الأزرق مصدر 85 % من المياه التى تصل مصر.

فى ميدان الحرية (ميدان الصليب فيما بعد) رد منجستو على السادات قائلا: لو جاء السادات فإننا سنغرقه فى بحر من الدم لن ينجو منه ولن نعيده إلى بلاده سوى جثة هامدة.

وبتلك الواقعة انهارت العلاقات المصرية، الإثيوبية ودعم انهيارها أزمة سد الألفية (أو سد النهضة) بين البلدين فيما بعد.

قبل أن تبدأ إثيوبيا فى بناء سد النهضة سافرت إلى منطقة بحر دار حيث ينبع النيل الأزرق من بحيرة تانا على قمة هضبة الحبشة وهناك التقيت بأجيال وطنية شابة لم تخف مشاعر من الغضب تجاهنا ترجع إلى مئات السنين حين كانت عصابات الاتجار بالرق ــ المرتدية عباءة عربية مخططة ــ تأتى عبر البوابة الشمالية فى مصر.

لكن ذلك التصور الخاطئ أزيل من عقول شباب إثيوبى تصادف أن جلسنا معا على نفس مائدة الطعام فى اليوم الأول لمنتدى أسوان على أطراف فندق موفنبيك ليتأكد لنا أن غياب التواصل يصنع خرافات تستقر فى الأذهان.

على أن أخطاء السادات فى التعامل مع إفريقيا تبعتها سياسة صارخة من الإهمال استسلم إليها مبارك.

سنة بعد أخرى من حكم مبارك تراجع عدد رؤساء إفريقيا الذين كانوا يحرصون على زيارة مصر بل إن بعضهم عاد إلى بلاده غاضبا مقاطعا.

كان رجال فى ديوان رئاسة مبارك يرحبون بزيارات مسئولى الدول الثرية طمعا فى الهدايا الثمينة التى يقدمونها قبل المغادرة دون أن يحظى مسئولو إفريقيا ببعض من تلك المعاملة المترفة.

وحدث أن طلب رئيس إفريقى سيارة لزوجته تستخدمها خلال زيارته الرسمية ولكنه فوجئ بتخصيص سيارة فيات قديمة إليها فقطع زيارته الرسمية وغادر القاهرة وهو يقسم ألا يعود.

وتعرض رئيس إفريقى آخر لنفس المعاملة الرديئة عندما أجبر على سداد فاتورة رجاله فى فندق سيسل ــ الإسكندرية ــ فقد كانت تعليمات الديوان أن الرئاسة لن تتحمل سوى تكلفة إقامة الضيف الكبير وحده.

وفى جنازة ياسر عارفات أبعد كبار إفريقيا المشاركين فيها إلى الصفوف الخلفية.

وعادة ما كان يختار وزراء أقل أهمية فى بعثات الشرف المصاحبة لرؤساء إفريقيا دون أن تدرك مصر أهمية أصواتهم فى المحافل الدولية أو فى الأزمات الدبلوماسية.

وفى كثير من الأحيان كان إرسال سفرائنا إلى الدول الإفريقية نوعا من عقابهم فقد كانت عواصم الشمال الشقراء الحلم والمطمع.

ولكن أؤمن بأن تلك التصرفات والتصورات تغيرت تماما فى السنوات الأخيرة.

وعندما تولى أحمد شفيق وزارة الطيران ألغى كثيرًا من رحلات مصر للطيران إلى عواصم إفريقية لتستولى عليها شركات تركية وفرنسية وقطرية وأصبح السفر إلى تلك العواصم يفرض ساعات من الترانزيت فى أنقرة أو باريس أو الدوحة.

وحسب ما سمعت من وزير الطيران الحالى الفريق يونس المصرى فإنه سيعيد العديد من الخطوط المباشرة مع عواصم إفريقية متداركا خطأ استراتيجيا كان لابد من تداركه.

ولكن الضربة العنيفة التى تلقاها مبارك فى 4 يونيو 1995 أجهزت على ما تبقى من مشاعره تجاه إفريقيا.

فى ذلك اليوم هبط مبارك فى أديس أبابا وما أن خرج من مطار بولى ليسير موكبه فى شارع يحمل نفس الاسم حتى تعرض إلى محاولة الاغتيال الشهيرة بعد ثلاث دقائق بالضبط.

ورغم أن إثيوبيا لم تكن متورطة فى الجريمة حسب تقرير بعثة التحقيق التى بقيت هناك أكثر من شهر فإن مبارك لم يعد يتحمس للقارة التى ننتمى إليها.

وفى الوقت نفسه ورث مبارك ما سمى بدبلوماسية حقائب الدولارات للتعامل مع حكام إفريقيا لضمان مصالح مصر هناك دون أن يدرك أن تلك الوسيلة لم تعد مجدية مع حكومات أصبحت فى الغالب منتخبة ويمكن أن تسقط لو انكشف فسادها.

وبإغلاق مكاتب ومعارض شركة النصر للاستيراد والتصدير تراجعت التجارة بين مصر وإفريقيا ولم يبق من تلك الشركة فى بعض العواصم الإفريقية سوى بنايات مهجورة تسكنها الفئران والثعابين وتنتظر من يعيدها إلى الأسواق.

وبسبب مافيا اللحوم عجزت حكومات سابقة عن استيرادها من إفريقيا دعما لمصلحتنا معها.

وسارعت إسرائيل إلى شغل الفراغ التى تركته مصر وإعادة علاقاتها الدبلوماسية مع غالبية الدول الإفريقية بل بدأت اللعب فى منابع النيل للضغط على مصر.

وحسب ما سمعت فى دول المنبع التى زرتها فإن إسرائيل سيطرت على كثير من رؤسائها بفرق حراسة دربها الموساد وشارك فيها ضباطه كما أنها كانت لا تتردد فى علاج العائلات الحاكمة فى مراكزها الطبية دون مقابل.

وببناء أكثر من ستاد رياضى لمباريات كرة القدم نالت إسرائيل شعبية هناك لم تنلها مصر التى تنفق سنويا أربعة أضعاف ما تنفقه إسرائيل على مشروعات خدمية أهمها حفر آبار المياه.

وما أن وجدت قطر نفسها محاصرة فى المنطقة العربية حتى راحت تبحث عن منطقة جديدة تعبث فيها بالمال والسلاح لتهدئة عقدها السياسية التى تعكس رغبات مرضية للسيطرة وتصورت أنها وجدت ضالتها فى إفريقيا وراحت تدعم التنظيمات المتطرفة فى تشاد ومالى وموريتانيا والصومال وساندت إيران فى دول يتغلغل فيها حزب الله ودول تبحث فيها تركيا عن فرص للاستثمار ولكن سرعان ما طردت قطر من تشاد وتوترت علاقتها مع إثيوبيا والسنغال ومالى.

وحرضت قطر وإيران وتركيا شخصيات مؤثرة فى منظمة الاتحاد الإفريقى على مقاطعة مصر بعد خروج الإخوان من السلطة ولكن لم تمر سوى سنوات قليلة حتى ترأست مصر المنظمة فى دورتها الأخيرة.

والمؤكد أن الدبلوماسية المباشرة الهادئة الصبورة التى اتبعها الرئيس السيسى ساهمت فى ذلك الانتقال العريض من الغياب إلى الحماس.

والحقيقة أن إفريقيا كانت ضمن اهتمام الرئيس منذ أن كان مديرا للمخابرات الحربية حين زار الكثير من دولها وتعرف عليها عن قرب.

وربما يفسر ذلك شعار منتدى أسوان: حان وقت إفريقيا.

تمثل إفريقيا كتلة تصويتية عادت إلى مصر بجانب كنوز من السلع الاستراتيجية (خاصة اليورانيوم وقود المفاعلات النووية والكوبالت خام تصنيع الروبوت والأخشاب التى تدخل فى كثير من الصناعات مثلا) وتمتلك مصر من المنتجات الجيدة ما يسهل عليها المقايضة التجارية على أسس محاسبية مختلفة تغنى عن العملات الصعبة.

ويدعم ذلك ما سمعت من وزراء اقتصاد فى دول الاتحاد الأوروبى : إن المشروعات الصناعية التى ستقام فى منطقة قناة السويس يجب أن تنتج سلعا بمواصفات الأسواق الإفريقية حتى تجد رواجا مناسبا أما لو أنتجت سلعا بمواصفات الأسواق الأوروبية والأمريكية فإنها ستعانى من الكساد.

وترحب مصر بحكام إفريقيا بمستوى شديد الرقى من الاهتمام جعلهم يعودون إليها منتشين متحمسين متعاونين.

ولكن ذلك وحده لا يكفى فالمنظومة يجب أن تتضمن الثقافة والفنون وبعثات الأزهر ليمتد التواصل المصرى من حكام إفريقيا إلى شعوبها.

والمؤكد أن منتدى الشباب فى أسوان دليل على فهم هذه المنظومة فقد بدأ الرهان على الشعوب بالشباب.. أصحاب المستقبل.