بنشوف الفرحة في عيون بنات الدير.. كيف عاشت الراهبات إحساس الأمومة؟

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


لم تعبأ بضجيج الساحة المكتظة بالحركة في الخارج، تستمر في تأدية مهامها، تقابل الجميع بابتسامة هادئة تتوارى خلفها متاعب يومها، لاسيما عندما تنصَّت لإحدى الراهبات الجدد بتمعَّن لمساعدتها، فهي بمثابة ابنتها "مش لازم أنجَب علشان أكون أم.. علاقة الأمومة بتسود في النهاية حول المحبة.. وفي مواقف كتير جمعتنا حركت مشاعرنا وجعلتنا نتعامل بأُلفة"، تقولها إحدى كبيرات الراهبات بدير مار جرجس بمصر القديمة -الذي تسكنه مئات الفتيات القبطيات اللواتي تخلين بإرادتهن عن ملذات الحياة من شتى أنحاء مصر-.

لم تكن ماريان، اسم مستعار، والتي يناديها الجميع بـ"أمنا"- وهو لقب الراهبات- أم لفتيات الدير فقط، بل حرصت خلال فترة جلوسها في الصالة الفسِيحة المجاوِرة لـ"قلاياتهن"-وتعني غرفهن-، بحكم عملها، على استقبال بعض الفتيات القبطيات، اللواتي يتوافدن، من أجل النصيحة والمساعدة "الناس تعبانة وغلبانة ومحتاجة الكلمة الحلوة.. وأقل كلمه بتفرحهم ". تنتهي المرأة التي على مشارف الخمسين من عبارتها، تطرق الباب إحدى الفتيات في العشرين من عمرها، ترحب بها بحفاوة، ومن ثم تبدأ الفتاة في سرد قصتها عليها، ودار حديث مُقتضِب بينهن وانصرفت الفتاة بعدما أهدتها "زيت مار جرجس" وطمأنتها.



مواقف عدة مرت على صاحبة القوام المنتصب، ذات العينين الخضراوين، والبشرة البيضاء، داخل الدير- الذي يعتبر واحدًا من أهم الأديرة في مصر-، منذ أن التحقت به عقب انتهاء دراستها الجامعية بعام، متذكرة أول من استقبالها بيومها الأول في الدير "استقبلتني أمنا كبيرة الدير ووقتها كنت حاسة برهبة شديدة.. ودي طبيعة بشرية عند دخول أي فرد منا لمكان لم يدخله من قبل.. أسئلة كتير دارت حينها في ذهني"، جاوبتها كبيرة الراهبات بشكل مطمئن "ضمتني مثل أي أم.. لحد ما جايه دوري مع الأصغر مني"، برغم أن كل راهبة مسؤولة عن عملها ولا يوجد مساحة لخدمة الأفراد، إلا بحدود؛ إلا أنها عندما يطرق بابها إحدهن لا تتردد خاصة من يكن تحت الاختبار "بيكونوا محتاجين للمحبة.. وأنا مسئوله عنها من هذا المنطلق".

 بمرور الأيام يتدفّق حُب الراهبات الصغيرات بقلب ماريان، فجميعهن تركن بيوتهن وأقرانهن ليهبن أنفسهن الراهبنة "في اللي بيتعب وكان بيعمل عملية.. وكنت ممكن أقوم بدور الأم وأضل جنبها ما بيفرقش احساسي وقتها عن الأم التي أنجبت..فرغم اختلاف البيئة والتعليم إلا أن مشاعرنا بتوصل". انهمكت "ماريان"، في خدمة الوافدين على الدير، قاطعتها فتاة جامعية، راغبة بالانضمام لهن، فقامت باعطائها ورقة للالتحاق بالدير، بعدما أصرت على تقديم واجب الضيافة لها، خاصة أنها قطعت مسافة طويلة من جامعتها بحلوان إلى منطقة مصر القديمة، تٌداعبها "انتي أكيد صايمة.. تحبي أساعدك في ملىء البيانات".

لم تشعر ماريان- التي لم يتحمس أهلها بالبداية لقرارها، بالضعف والندم على أيام عمرها التي قضتها بالدير دون زواج وعدم إنجاب "مكتفية بحبي للرب وببناتي بالدير"، تفهقت في حديثها شاخصة نظرها صوب الباب الخشبي المُوَشى بالزخارف الأثرية، خلف هذا الباب حكايات لا تنسى، منها فتيات ضعفوا بعد فترة من دخولهم الدير "وارد يحصل كل حاجة.. وكنت وقتها بقوم بدوري وبطمنها واقنعها.. كانوا بيحسوا انني في مكانة أمهاته"، فضلاً عن احتضانها للطالبات الرهبنة التي لا زلن تحت الاختبار "في أيام الصوم الكبير حاليًا.. بيمر علينا كتير من البنات اللي بتيجي علشان ندعلها.. أو نساعدهم في حل أزماتهم.. كمان بيهنونا بعيد الأم". تعود الفتاة الجامعية مرة أخرى للسؤال عن رد الأم الأكبر بالكنيسة، لتخبرها مريان" أمنا قالت إنها في فترة صوم كبير وصعب تستقبل حد غير بعد انتهاء الصوم".

"في مرة واحده كانت عاوزة حضن فحضنتها"، تقولها "دولاجى"- اسم مستعار-، وهي تقبضَ على إحدى الصور الخاصة بالسيدة مريم، بين يديها "ممكن نهزر.. ولو في حد تعبان ممكن اعمله حاجة سخنة أجبلها أدوية"، بحكم عملها كطبيبة صيدلانية، إضافة لمشغلها التي يضم الكثير من الفتيات، وتبادل الأدوار فيما بينهم. وبرغم أنها مشغولة أكثر الأوقات، إلا أن العديد من الفتيات كانت تردن توسد ذراعيها، في بعض الأحيان "الراهبات الصغيرات بنعاملهن على أنهم بناتنا ممكن تحناج بعض الاكلات معندكيش بسكوته أقوم اجبلها.. حد أهداني شيكولاتية اديها لبنت أصغر تكون جسمها محتاجها أكتر من".

فتيات كثيرة، قد منحن لهن شعور الأمومة، كما فعلت المرأة الأربعينية، في بداية دخولها الدير، مستذكرة أن في أول أيامها دخلت المطبخ مع إحدى الراهبات الكبيرات في السن، وعاشت نفس طقوسها مع والدتها "كانت بتعاملني نفس ماما بالضبط وفكرتني بها حتى طريقة طبخها فحسيت أن مش بعيد". توالت السنوات ولعبت نفس الدور، خاصة عندما يتجمعن للصلاة "ممكن واحدة عاوزة تدلع شوية ندلعوها.. صغيرة يعني".



بعد النزول من دَرَج سكن الراهبات، مباشرة توجد سلالم أخرى لأسفل، تؤدي إلى  الصالة الرئيسية لمزار مار جرجس-يرجع تاريخها إلى القرن التاسع الميلادي، وتشمل المدخل والباب المحفور بالفتحات الزخرفية الضخم، والذي  يعد إحدى البوابات الخشبية النادرة في التراث القبطي-، تقبع "مريم"-اسم مستعار-، طويلة القامة ذات بشرة حنطيّة، على مكتب خشبي، تستقبل الزائرين وابتسامة خفيفة رسمت على مبسمها، تداعب الجميع ببعض الكلمات " الناس مثقلة ودوري هنا اشبة بساعي البريد بوصل رسالة طمأنينة.. حاسة بمشاعر الناس وعندى عطاء وفير وطاقة وكرستها لخدمة المحتاج أي كان أصغر مني أو أكبر"، مشيرة باصباعها السبابة إلى بعض الفتيات اللواتي في عمر العشرين " الزائرات دول ولادي".

وسط الترانيم، قدَّ حديثها عشرينية، باغتتها، خلال تقدمها بعض الهدايا- كالزيت والصليب- بعد زيارتهم للمقصورة النحاسية بالمزار الأثري، تشتكي من حماتها، إلا أنها لم تعطيها فرصة للشكوى؛ حرصًا على نفسيتها "ماتزعليش نفسك واحنا في عيد الأم عامليها زي والدتك.. والأمور هتعدي"، ولم تتركها إلا عقب سماع ضحكاتها "، تمتنّ لخدمة الصغيرات أيضًا داخل الدير "الأمومة عطاء وطول الوقت بدي المحتاج طالما استطيع ذلك.. وفعلا بحس بأموممتي لم أشوف البنات فرحانة". رغم انها لم ترى أسرتها منذ سنوات عدة، ولم تعش مع والدتها كثيرًا، إلا أنها تعيش إحساس الأمومة "بناتنا كتير"، تقولها وهي مبتسمة، منهمكة في تجهيز حقيبتها، لقرب انتهاء عملها داخل المزار "يوم جميل مثل باقي الأيام.. بس كان له طعم تاني وحبينا نوزع الهدايا على الجميع كعادتنا بس اليوم بشكل مكثف احتفالا بكل الأمهات والبنات الحلوة".