تفسير الشعراوي للآية 182 من سورة الأعراف

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


تفسير الشعراوي للآية 182 من سورة الأعراف

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ(182)}.

وهؤلاء هم المقابلون للذين خلقهم الله أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، والآيات جمع آية، وقلنا: إن الآيات التي في الكون ثلاث؛ آيات تنظرها تهتدي بها إلى من صنع ذلك الكون المترامي الأطراف بتلك الدقة العظيمة، وذلك الإحْكام المتقن، آيات تلفتك مثل الليل والنهار والشمس والقمر، وكذلك آيات تخرق ناموس الكون لتثبت صدق الرسول بالبلاغ عن الله، وآيات قرآنية تحمل منهج الله. والذين كذبوا بآيات الله الكونية ولم يعتبروا بها، ولم يستنبطوا منها وجود إله قوي قادر حكيم، وكذبوا الآيات المعجزات لصدق النبوة، وكذلك كذبوا آيات القرآن فلم يعملوا بها، ولم يتمسكوا بها؛ هؤلاء يلقون الحكم من الله فلن يدخلهم الحق النار فقط، بل لهم عذاب أقرب من ذلك في الدنيا، لأن المسألة لو أجلت كلها للآخرة لاستشرى بغي الظالم الذي لا يؤمن بالحياة الآخرة، لكن من يؤمن بالآخرة هو من سيحيا بأدب الإيمان في الكون، وتكون حركته جميلة متوافقة مع المنهج. عكس من يعربد في الكون؛ لذلك لابد أن يأتي العقاب لمن يعربد في الكون أثناء الحياة الدنيا، وسبحانه وتعالى القائل: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ...} [الطور: 47].

أي أن لهم عذاباً قبل الآخرة.

ويقول الحق بعد ذلك عن العذاب في الدنيا: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}.

وحين تقول: أنا استدرجت فلانا، فأنت تعني أنك أخذت تحتال عليه حتى يقر بما فعل، مثل وكيل النيابة حين يحقق مع المجرم، ويحاصره بالأسئلة من هنا، ومن هناك، إلى أن يقر ويعترف، وهذا هو الاستدراج. و(الاستدراج) من الدرج ونسميه في لغتنا اليومية (السلَّم) وهو وسيلة للانتقال من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل فمن المستحيل على الإنسان أن يقفز بخطوة واحدة إلى الدور الخامس مثلا في عمارة ما، ولذلك صمموا الصعود على درجات إلى مستويات متعددة على وفق الحركة العادية للنفس، وهناك من يجعل علو الدرجة مثلاً اثنى عشر سنتيمتراً بحيث يستطيع كل إنسان أن يرفع قدمه ويضعها على الدرج دون إرهاق النفس، وهذا يعني أننا نستدرج العلو لنصل إليه أو ننزل منه.

وقد خصوا في الآخرة الجنة بالدرجات العليا، والنار بالدرجات السفلى.

وهنا يقول الحق: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182].

أي نأخذهم درجة درجة، ونعطي لهم نعمة ثم نرهقهم بما وصلوا إليه، كما قال سبحانه من قبل: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً...} [الأنعام: 44].

لأن الله حين يريد أن يعاقب واحداًَ على قدر جرمه في حق أخيه الإنسان في الدنيا يأخذه من أول جرم؛ لأن الأخذة في هذه الحالة ستكون لينة، لكنه يملي له ويعليه ثم يلقيه من عَلِ. {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً...} [الأنعام: 44].

وهكذا يكونُ الآخذ أخذ عزيز مقتدر.

وحينَ يستدرج البشرُ، فإن الطرف المستدرج له أيضاً ذكاء، ويعرف أن هذا نوع من الكيد وفخ منصوب له، لَكنْ حين يكون ربنا القوي العزيز هو الذي يستدرج فلن يعرف أحد كيف يفلت. والعلة في قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} هي قوله: {مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}؛ لأن البشر يعلمون طرق استدراج بعضهم لبعض.

ويقول الحق بعد ذلك: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ...}.