التوازن.. سر السعادة

إسلاميات

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


روى البخاري عن أَبي جُحَيْفَةَ قال: آخى النَّبِيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم بَينَ سَلمَانَ وأبي الدَّرْداءِ، فَزَارَ سَلمَانُ أبَا الدَّرْدَاءِ، فرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فقَال لهَا: ما شَأْنُكِ؟ قالتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ له حَاجَةٌ في الدُّنْيَا، فجَاءَ أبُو الدَّرْدَاءِ، فصَنَعَ له طَعامًا، فقَالَ: كُلْ، قالَ: فَإنِّي صَائِمٌ، قَالَ: ما أَنَا بآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قالَ: فَأَكَلَ، فلَمَّا كانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ فنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ من آخِرِ اللَّيْلِ، قالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: "إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فقَالَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم: صَدَقَ سَلْمَانُ".(رواه البُخاري).

بعضُ النَّاس لا يرى في الحياة إلا الجِدَّ المرْهِق، والعملَ المُتواصِل، وآخرون يَرَوْنَها فرصةً للمُتْعة المطلقة والشهوة المتحرِّرة، وكلاهما فاته الصواب، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وخير الأمور أوساطها، وليس شيء أحسن من التوازن.

التوازن سر عظمة هذا الكون وجماله، وهو سمة من سماته: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}(سورة الرحمن).

{وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(سورة يس).

توازن دقيق وانضباط بارع بين سماء الكون وأرضه، وشمسه وقمره، وحره وقره، توازن في النظام البيئي والمناخي، وبين الأفلاك.. {صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون}.

. والتوازن أيضا هو سر جمال هذه الشريعة، وسر بقائها وسبب صلاحها لكل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، توازن في علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بالناس، وعلاقته بالمخلوقات حوله.

. والتوازن سر نجاح الإنسان وسعادته في هذه الحياة، فلا يزال الإنسان سعيدا ما دام يوازن بين أمور حياته وجوانبها المختلفة، فإذا مال إلى جانب كان ذلك ولابد على حساب جانب آخر، فيحدث الخلل والاضطراب، فالإفراط في جهة لابد وأن يقابله تفريط في جهة أخرى.
الإفراط في طلب الدنيا والانغماس فيها يؤدي إلى التفريط في عمل الآخرة.
والإفراط الشديد في العمل والانشغال به يؤدي إلى الحيف على حقوق الزوجة والأسرة والأولاد. 
حتى الإفراط في العبادة قد يؤدي إلى تضييع من تعول.

والتوازن هو الخط الفاصل بين الإفراط والتفريط، ويشمل كل جوانب الحياة، توازن بين الحقوق والواجبات، بين الروح والبدن، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، بين العلم وبين العمل، بين مصالحنا ومصالح الآخرين، توازن في طلب المال، في تقييم الأشخاص، في النظر إلى الأمور، في التربية... إلخ.

والتوازن يضبط للإنسان فضائله ويحفظها من أن تتحول إلى رذائل:
فهو كريم كرما لا يصل إلى حد التبذير.
شجاع شجاعة لا تصل إلى حد التهور.
جريء جرأة لا تبلغ به حد الوقاحة.
حذر لكنه حذر لا يصل إلى الخور والخوف والجبن.
متوكل على الله توكلا لا يصل إلى حد الإهمال والدروشة والتواكل وترك الأسباب.
مقبل على الآخرة إقبالا لا ينسيه الدنيا ولا يمنعه عن طلب رزقه وتحسين أوضاعه المعيشية. 
{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك}(سورة القصص).

هذا ملخص ما أراد سلمان أن يبلغه إلى أبي الدرداء وللمسلمين من بعده، أن يراعوا جميع الحقوق وألا يميلوا بحق حتى يجور على بقية الحقوق، وإن كان هذا الحق هو حق الله تعالى، (إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا).

ورغم أن حق الله هو أعظم الحقوق وآكدها وأصل الخلقة وأساسها وعلة وجودها {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}(الأنبياء:25) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(البقرة:21، 22).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: [أتدري ما حق الله على العباد، قال الله ورسوله أعلم. قال: حق العباد على الله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا].

ومع أن ترك هذه العبادة هو أكبر الكبائر وأبين الظلم، {إن الشرك لظلم عظيم}، [أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك].

ومع كل هذا جاءت الشريعة بالتوازن العظيم في هذا الجانب الخطير فكان من جوانب هذا التوازن:

من جوانب التوازن في العبادة
ـ مراعاة مقتضى الفطرة، والتناسق البديع بين متطلبات الروح والجسد:
فالله هو الذي خلق الإنسان، خلقه من تراب وطين ثم نفخ فيه من روحه، فكان بشرًا سويا فيه من الأرض طينها، ومن السماء روحها، وهو محتاج إلى ما يصلح روحه وبدنه جميعا. فجاءت شريعة الإسلام لتوازن بين الأمرين: 
ففي جانب الروح: العبادات: صلوات، وزكوات، وصيام، وأمر بالتقوى، والخوف من النار، ومراقبة الله الواحد القهار. 
وفي جانب البدن المادي: أباحت الزواج لبقاء النسل وتحقيقا للذة البدن وردا للشهوة عن الحرام. وأحلت التنعم بالمطعومات والمشروبات الحلال، ونهت عن تعذيب النفس بالحرمان أو الوصال بالصيام الدائم. وطالبت براحة البدن وعدم تعذيب الجسم ولو في العبادة.

ـ تصحيح المسار لبعض من جنحوا إلى الغلو 
وردهم إلى الاعتدال والاتزان، فرد الرسول صلى الله عليه ووسلم على عثمان بن مظعون ومن معه من شباب الصحابة التبتل، ومنعهم من الاختصاء ليدفعوا عن أنفسهم شهوة النساء ويتفرغوا لعبادة رب الأرض والسماء، ونهاهم عن ذلك.

وفي قصة الثلاثة الأصحاب المشهورة الذين حرم أحدهم على نفسه النوم والآخر الإفطار والثالث الزواج، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: [أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني](رواه البخاري).

ـ النهي عن تعذيب النفس ولو بالعبادة:
فعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: [دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فإِذا حَبْلٌ مَمْدُود بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فقَالَ: ما هَذَا الْحَبْلُ؟ قَالُوا: هَذَا حَبْل لزَيْنَبَ، فَإِذا فَتَرَتْ، تَعَلَّقَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: لا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُد](رواه البخاري).

ونهى عبد الله بن عمرو أن يصوم كل يوم وأن يقوم كل الليل، وقال له: [أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ " قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ : " فَلَا تَفْعَلْ قُمْ وَنَمْ وَصُمْ وَأَفْطِرْ ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا] (رواه البخاري ومسلم).

و[بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل - وهو رجل من الأنصارـ نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه](رواه البخاري).
ذلك أن تعذيب النفس بمثل هذا لا حكمة فيه ولا هو مطلوب، فنهاه عن كل ما لا ينفع وأمره بما يعود عليه بالنفع في دينه بأن يتم صومه.

فأمرهم بالاعتدال ونهاهم عن المشقة وتكليف النفس مالا تطيق، وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه: [اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ](رواه البخاري).

ـ التنوع في العبادات:
ترويحا للنفوس وتيسيرا عليها، ودفعا للسآمة والملالة عنها، وتوسيعا لأبواب العبادات، فمن لم يفتح له في باب فتح له في غيره، وليختر كل مسلم ما هيأه الله له ويسره عليه.

ـ ألا يطغى حق على حق:
وهذا من أعظم جماليات الشريعة، وسبل توازنها أن يراعي المسلم جميع الحقوق ويؤدي جميع الواجبات ولا يحيف على حق منها لأجل غيره.. [إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ].