عادل حمودة يكتب: الأسئلة الصعبة فى حريق محطة مصر

مقالات الرأي



لماذا قفز سائق الجرار دون أن يصاب وترك خدمته قبل انتهاء ورديته بخمس ساعات؟.. هل صحيح أن السولار لا يشتعل بالسهولة التى شاهدناها؟.. أين سيارات الإسعاف والإطفاء فى المحطة؟

منظومة القطارات شديدة التعقيد تحتاج لرؤية شاملة وإلا ضاعت المليارات التى تنفق عليها وتكررت حوادثها

البسطاء تبرعوا بالدم ومرضى السيلفى يلتقطون لأنفسهم صورا مع الجرار المتفحم

اقترح تدريب طلاب المدارس الثانوية على أصول إنقاذ الضحايا فى الحوادث


أغرت عبقرية الموقع كل من سعى إلى الجلوس على عرش الدنيا باحتلال مصر.

لا تملك مصر توابل الهند.. ولا نفط العراق.. ولا ماس إفريقيا.. ولكنها.. تملك موقعا استراتيجيا متوسطا.. من يسيطر عليه يختصر المسافة إلى الدول التى يفكر فى احتلالها ليصنع إمبراطوريته العظمى.. هكذا.. أصبحت بريطانيا قوة مترامية الأطراف لا تغيب عنها الشمس.

لم تهتم بريطانيا طوال السبعين سنة التى احتلت فيها مصر سوى بالبنية الأساسية للمواصلات.. دعمت ميناء السويس لخدمة سفنها المتجهة إلى الهند.. ومدت شبكات السكك الحديدية لتسهيل وصول قواتها إلى السودان فى الجنوب وفلسطين فى الشرق وليبيا فى الغرب لا أكثر ولا أقل.

مدت هذه الشبكة فى عام 1853 ــ لتكون الثانية من نوعها بعد الشبكة البريطانية ــ وأشرف عليها بنفسه جورج ستيفنسون مخترع القاطرة البخارية.

سهلت القطارات حركة العمالة والتجارة وحملت الصحف والبريد وخلقت محطاتها المنتشرة بطول البلاد وعرضها مراكز تجارية وترفيهية وثقافية فى عواصم المحافظات ومدنها الرئيسية بنقل مليون راكب فى 800 رحلة يومية قربت المسافات ووثقت العلاقات ونقلت الحضارات.

لكن.. مصر الثانية على العالم فى استقبال القطارات تراجعت بفعل الجمود والإهمال والتخلف إلى ما بعد السبعين وإن تحسنت كثيرا فى السنوات القريبة الماضية حتى وصلت إلى الخمسين.

طوال 166 سنة لم تتغير الشبكات العتيقة.. دب الضعف فى قضبانها.. شاخت نظم الرقابة والتحكم فى خطوطها.. وفقدت قطاراتها متعة السفر على متنها.. وتكررت حوادثها.. وحصدت الكثير من أرواح ركابها.. وابتلعت عشرات المليارات دون أن تطور نفسها.

عرفت السكك الحديدية فى بلادنا أغرب أنواع الحوادث.. سيدة تسقط من دورة مياه قطار الصعيد.. حريق فى بوفيه الشاى أدى إلى تفحم مئات الجثث أمام مدينة العياط.. اصطدام قطار بأتوبيس مدارس فى أسيوط.. بجانب عناق الموت الشهير المتكرر بين قطارين وكأنهما ديناصورين خرجا من جحريهما.

سبب تلك الكوارث المروعة إهمال حكومات سابقة متتالية لهذا المرفق وحماسها المريب لرصف طرق السيارات والشاحنات بكل ما شابها من فساد حتى ينالها نصيب من المال الحرام.

وبينما طورت اليابان القطارات النازومى (أو الرصاصة) لتقترب سرعتها من سرعة الطائرات دبت الشيخوخة فى قطارات مصر وتخشبت مفاصلها فلم تصل فى مواعيدها وكثيرا ما أصيبت بالعمى والصمم وعجزت عن التحكم فى نفسها ودفع ركابها الثمن من حياتهم.

وسعت الدولة مؤخرا لتجديد شباب القطارات بتصنيع عربات مناسبة للاستخدام الآدمى واستيراد قطارات تتوافر فيها أجهزة الاستشعار عن بعد حتى تتوقف فى الوقت المناسب قبل أن تصطدم بغيرها من وسائل النقل المختلفة.. ولكن.. على ما يبدو فإن من السهل تغيير الآلات ولكن من الصعب تغيير البشر الذين يتعاملون معها.

وقعت حوادث القطارات خارج عنابرها حتى كان حادث الأربعاء الأسود ليكون الأول من نوعه فى محطة قطارات.. بالتحديد فى المحطة المركزية للقطارات.. محطة مصر .

كانت محطة مصر موقعا مغريا لتصوير الأفلام الرومانسية حيث يلتقى العاشقان ــ بعد طول فراق ــ فى ساحتها وتنطلق صفارات القطارات فرحة بهما ولكن بعد هذا الحادث تحولت مشاهد الحب فى محطة مصر إلى مشاهد رعب وفزع وجحيم لا يرحم.

حسب الرواية الشائعة: اندفع الجرار القاتل بسرعة هائلة تجاه مصدات الرصيف السادس وفى بطنه مخزن من السولار وما أن اصطدم بها حتى انفجر مسببا حريقاً هائلاً التهم البشر وصدع المبانى وأحزن النفوس فيما يشبه بروفة مصغرة من يوم القيامة.

مهما بلغت مشاعر الفزع فى أفلام الرعب فإنها لا تصل إلى ما أحس به الضحايا الذين أذابت النار الجلد واللحم فى ثوان وتركتهم أكواما من العظم تتساقط مغطاة بالسواد.. يعلم الله وحده حجم ألم الاحتراق الذى نالهم.. أما الذين سعوا إلى إنقاذهم فقد دعوا الله ألا يضعهم فى مثل هذا الموقف مرة أخرى.. وإن كان بعضهم تعلم درسا مما عاشه وأقسم على أن يواصل حياته مستقيما فالموت على ما يبدو أقرب إلينا مما نتصور وربما لهذا السبب نحمد الله كثيرا عندما نعود إلى بيوتنا سالمين.

منعت يوتيوب نشر الفيديوهات التى تصور الضحايا والنار ممسكة بهم حتى لا تؤذى مشاعر مستخدميها ولكن شبكات التواصل الاجتماعى وبعض المواقع الصحفية نشرتها فى حالة من السادية المرضية وجب علاجها والشفاء منها حتى لا تزيد من حالة الاكتئاب التى نالت منا بعد الحادث.

ولم يتردد البعض فى التقاط صورة سيلفى مع بقايا الحادث كاشفا عما فى نفسه من بشاعة تحتاج أن يذهب على الفور إلى الدكتور أحمد عكاشة.

وسادت حالة من الشماتة فى قنوات معادية لمصر تصورت أن الحادث سيشعل ثورة جديدة ضد النظام دون أن تستوعب طبيعة السلوك الحضارى للمصريين فى الأزمات.

لم تستوعب حالة الشماتة الإخوانية اندفاع البسطاء دون تردد إلى وسط النار لإنقاذ ما يمكن من الضحايا بلا خوف من أن تمسك بهم النار أو يضافوا إلى قائمة الضحايا وسجلت الكاميرات والفيديوهات شجاعة ثلاثة رجال بسطاء: وليد مرضى (أنقذ سبع حالات) ومحمد ذئب (أنقذ عشرة أشخاص) ومحمد عبد الرحمن (الذى أنقذ طفلا).

استرد هؤلاء الأبطال الثلاثة شهامة المصريين بعد أن نعيناها وتصورنا أننا فقدناها ولو كنت من رئيس الحكومة لكرمتهم علنا وأوصيت بنيلها نوط الشجاعة.

ولكن الشجاعة وحدها لم تكن تكفى وإلا انضم المنقذ إلى الضحايا كما حدث مع محمد عادل الذى لم ترحمه النار وهو يطفئها فى طفلة اشتعلت فيها ونقل للعلاج فى مستشفى دار الشفاء.

إن حريق السولار لا يطفأ بالمياه وإنما بمواد كيميائية ما تعبأ فى أسطوانات خاصة يجب التدريب على استعمالها فى المدارس الثانوية كما يحدث فى كثير من دول العالم.

لكن من الواضح أن المحطة كانت تفتقد العدد الكافى من تلك الأسطوانات كما أنها كانت تخلو على ما يبدو من سيارات إطفاء وسيارات إسعاف يمكنها التدخل السريع للتخفيف من حجم الكارثة وتقليل عدد الضحايا والدليل على ذلك لم نر فى الفيديوهات الأولى سوى عمال فى المحطة يطفئون النار بجرادل المياه.

ولم تستوعب القوى الشامتة تلك الأعداد الغفيرة التى سارعت إلى التبرع بالدم بأكثر مما يحتاج الضحايا وبأكثر من طاقة استيعاب مراكز التبرع ودون أن يدعوهم أحد.

والمؤكد أن عدد الجرائم فى يوم الحادث تقلص فلا أحد مهما بلغت درجة استهتاره يمكن أن يسرق أو يتحرش والناس من حوله يسيطر عليهم الحزن والغم والنكد ولو لم يفقدوا عزيزا عليهم فى الحادث.

ولا مانع من تصديق الرواية الشائعة عن الحادث.. اشتباك بين سائق الجرار وسائق جرار آخر جعله ينزل من كابينة القيادة تاركا الجرار يندفع بسرعة لا تقل عن 65 كيلومترا حاملا فى بطنه 25 ألف طن من السولار سريع الاشتعال وما أن ارتطم بالمصدات حتى كان ما كان.

ولكن كيف قفز السائق من الجرار دون أن يصاب؟.. هل اختار مكانا آمنا يقفز إليه؟.. ولم ترك مكانه قبل انتهاء ورديته بنحو خمس ساعات؟.. ولم بدا هادئا متماسكا على شاشة وائل الإبراشى ليلا رغم بشاعة الحادث الذى تسبب فيه وعرف حجم الكارثة التى سببها؟.

على بساطة الرواية لا مانع من تصديقها ولكن لا مانع أيضا من التفكير فى احتمالات أخرى.. أن يكون الحادث مقصودا.. ويشبه حادث انفجار خزنات وقود الطائرات المرتطمة بمبنى مركز التجارة العالمى ومبنى البنتاجون فى هجمات سبتمبر.

لا نسبق تحقيقات النيابة ولا لجان تقصى الحقائق ولكن هناك أسئلة غامضة يجب الإجابة عنها: كيف قفز السائق غاضبا من الجرار دون أن يصاب بخدش؟.. هل اختار مكانا آمنا يقفز إليه؟.. ولم ترك عمله قبل انتهاء ورديته بنحو خمس ساعات؟.. ولم ادع أنه لم يعرف بالحادث والانفجار كان مروعا والدخان كان ظاهرا عن بعد؟.. وهل صحيح أن السولار لا يشتعل إلا بفعل فاعل؟.

لنترك فك شفرة هذه الألغاز للجهات المختصة لنسأل عن المستقبل.

المؤكد أن السكك الحديدية فى مصر تخلفت جيلين على الأقل وهى منظومة شديدة التعقيد.. القطار وحده فيه محطة كهرباء وأجهزة تبريد ومخزن وقود.. ويتحرك على قضبان متهالكة تؤثر فى القطار ويؤثر فيها القطار.. مما يزيد من شعور الركاب بالاهتزاز الذى لا يشعر به ركاب القطارات الحديثة فى الدول المختلفة.. ويزيد الاهتزاز بتأثر التربة الممتدة فوقها القضبان.. وهناك نحو 3500 مزلقان يجب أن يغلق الواحد منها أتوماتيكيا قبل مرور القطار بثلاثة كيلومترات وهو نظام استوردناه ولم ننفذه.. والأخطر أن وسائل الأمان والتحكم لا تزال تخضع للعنصر البشرى الذى يسمح بأخطاء لا يسمح بها وسائل الأمان والتحكم الإلكترونية.

وتمر القطارات فى مصر على 850 نفقاً وكوبرى لم تعرف الصيانة منذ وجدت مما قبل عشرات السنين مما يرفع احتمالات انهيارها والتسبب فى كارثة من نوع جديد لم تشهده السكك الحديدية من قبل.

وبسبب تطور القاطرات فى العالم لا تجد قاطراتنا القديمة قطع غيار لها كما أن الجرارات لم تعد تتحرك بالسولار وإنما تتحرك بوحدات كهرباء ملحقة بها.

كما أن القاطرات المتطورة بها من عناصر الأمان ما يسمح لغرف المراقبة بإيقافها عن بعد إذا ما تجاوزت السرعة المقررة لها.

ولم تعد تنتج نوعية القاطرات التى نستخدمها سوى المجر وروسيا والصين ومن ثم نستوردها منها ولكنها وحدها لا تكفى والمليارات التى تنفق عليها لن تنقذها من الحوادث فالسكك الحديدية مثل أوركسترا متعدد الآلات والعازفين.. نشاز عازف واحد يفسد اللحن.. ويقضى على الفرقة كلها.