طارق الشناوي يكتب: "الدهشة" كلمة السر المفقودة!

الفجر الفني

طارق الشناوي
طارق الشناوي


الإبداع دائما ما يأتى فى أجمل وأعمق صورة له عندما يتكئ على روح المغامرة، على الجانب الآخر، كلما خفت هذا الصوت المشاغب والمتمرد بطبعه، باتت العملية الفنية أشبه بمعادلة حسابية فاقدة الروح تضيف ربما للفنان رقما على خريطته، إلا أنها لا تمنحه إنجازا ولا عمقا، الدهشة هى أول خيط فى بكرة الإبداع، فكيف تعرف الطريق إليه وهو يعلم كل التفاصيل مسبقا؟ أقول قولى هذا بعد أن قرأت عناوين عدد كبير من المسلسلات القادمة فى رمضان، باعتبارها أجزاء ثانية وثالثة لاستكمال أعمال سابقة لمجرد أنها حققت نجاحا. فى البداية لم يكن ما رأيناه على الشاشة يحمل اسم (الجزء الأول)، فكيف لهم أن يطلقوا على ما سوف نشاهده (جزءا ثانيا)؟

الفنان ينفق ربما شهورا فى البحث عن مفتاح الشخصية التى يكتبها أو يخرجها أو يؤديها، وتلك هى لمحة ومتعة الإبداع الحقيقية عندما تقدم جزءا ثانيا، فما هو الجديد خاصة أن كل عناصر العمل الفنى لديهم المفتاح مسبقا؟.. أتذكر الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة بعد نجاح مسلسل (الحب وأشياء أخرى) للمخرجة المبدعة إنعام محمد على، طالبه الجمهور من فرط التصاقهم وتصديقهم للشاشة بأن يستكمل حكاية آثار الحكيم وممدوح عبدالعليم فى جزء ثان، فكان رده: الحلقات اكتملت عند نزول التترات فى الحلقة رقم 30.

الفنان يجب أن يتحلى بروح الثورى الذى يتمرد حتى على نفسه، هكذا مثلا وجدنا لدينا فى الغناء اثنين يحملان لقب عبدالوهاب: الأول (عبدالوهاب القديم) الذى عرفناه فى منتصف العشرينيات من القرن الماضى، ثم فى منتصف الخمسينيات.. ومع بزوغ موهبة عبدالحليم عندما حلق فى سماء النغم بجناحى الملحنين كمال الطويل ومحمد الموجى، وجدنا عبدالوهاب آخر يولد، أطلقوا عليه (عبدالوهاب الجديد)، لأنه قرر أن يستلهم روح العصر ولم يقدم أجزاء ثانية من ألحانه التى سكنت قلوب الناس، بل قفز فوق سور الوهابية، كان يبدو وكأنه يفترس عبدالوهاب القديم الذى كان يلحن القصيدة حرفاً حرفا، فصار الجديد يستلهم بموسيقاه روح القصيدة كلها.

وفى كل الأنماط الفنية ستجد تنويعات مماثلة، بيكاسو مثلا كان يتجدد من مرحلة إلى أخرى، بدأ تكعيبيا، بل وضع مع آخرين بذرة هذه المدرسة، إلا أنه سرعان ما تمرد حتى على نفسه، وإن كان هو يقول: (أنا أرسم اللوحة بما تفرضه علىّ، دون أن أضع منهجا مسبقا للتعبير).

ما أراه الآن على الساحة الدرامية والغنائية نوع من الاستسهال، وكأنها عدوى الكسل، وكما وصفها الأديب الراحل الكبير يوسف إدريس بتلك الجملة الموحية: «فقر الفكر وفكر الفقر»، إنه «الشعبطة» فى قطار نجاح سابق. شاهدنا مثلا قبل ثلاث سنوات كيف أن الجزء السادس من واحد من أشهر المسلسلات العربية نجاحا، وأعنى به (ليالى الحلمية)، قد حقق فشلا ذريعا ولم تشفع له قوة الدفع التى توافرت له خلال الأجزاء الخمسة التى استمرت حتى منتصف التسعينيات، ولأن النجاح له ألف أب والفشل يتيم، فإن الكل تبرأ من المسلسل اللقيط واعتبر أن الآخرين هم سر الهزيمة.

الفنان عليه أن يُعلن التمرد، ليس فقط على مفردات الزمن الذى يعيشه، ولكن على نفسه أولا، حتى لا يصبح صدى لهذا الخطر الذى حذرنا منه يوسف إدريس قبل نحو 40 عاما، اقفزوا بعيدا عن النجاح الذى تنبت له أشواك تُدمى من يحاول استرجاعه، تشبثوا بدهشة المغامرة.. «ولكن تقول لمين.. ولا الهوا»!.